لا يمكن أن نطلق على ما يجري حالياً في منطقة الشرق الأوسط وعلى ساحة الصراع المحتدم سوى زلازل من شأنها إعادة تحديد ورسم معالم النفوذ وقواعد الاشتباك. أنظمة وتنظيمات سقطت أو حُجّمت، ودولٌ أخرى انكشفت أمام لحظة حقيقة تنفيذ الشعارات المرفوعة منذ عقودٍ خلت.
أمام هذا الاشتباك وتلك التعقيدات التي تزداد سريعاً، ثمة سؤالٌ مطروحٌ – وبهدوء – يوجب البحث عن الإجابة، وله بعدان إقليمي ومحلّي، ويوجّه بشكلٍ خاص إلى إخوتي أبناء طائفتي الشيعية المنتشرين على طول جغرافية الشرق الأوسط. ما يومنا التالي؟ وما المطلوب منّا؟ ينطلق هذا السؤال من دعوة ضرورية إلى إجراء مراجعةٍ نقدية ذاتيّة، قائمة على معرفة ما جرى وما حدث طوال السنوات الماضية، والنظر إلى النتائج التي تحقّقت والواقع المعيش الحالي. ومن باب المعرفة والإدراك بحركة هذه الجماعات – وتحديداً في العراق – فإنه ليس هناك أي مراجعة أو نقد إلا ما ندر، وما يُقال عن «تغيير في سلوك البعض» ليس سوى خضوع لشبكة المصالح الاقتصاديّة التي تنامت وكبرت منذ دخولهم أكثر في دهاليز اللعبة السياسية – الاقتصاديّة، وإصرارهم على الجمع بين فكرة الدولة واللادولة، وهذا لا يُمكن. فكيف للنقيضين أن يجتمعا؟ وإذا أمعنّا في تطورات المنطقة، فإن الحديث موجّهٌ إلى الجميع من دون استثناء. فالقوى الفاعلة اليوم ضائعة في صياغة الهويّة الخاصّة بها. بين مفهوم الوطن والأمة. بين العمل لأجل بناء وطنها أو التمدّد لخارج حدوده لـ«نصرة» من تشترك معه في العقيدة والانتماء الفكري بهدف دفع الأخطار عنها؛ وهذا يعني مزيداً من العنف والقتال والدم.
هذه القوى عاجزة عن تحديد بوصلتها؛ بين الانتماء إلى الهويّة الوطنيّة والانتماء إلى العقيدة؛ وهذا يعني في كثيرٍ من الأحيان تغليب المصالح الخارجية على المصالح الوطنيّة الداخلية، ما يعيق أي نهوضٍ جديٍّ لعمل الدولة ومؤسساتها لصالح الصراعات والمواجهات هنا وهناك. هذه القوى عاجزة وستعجز، عن تحديد شكل الانتماء إلى فكرة البناء لأجل الإنسان وحاضره ومستقبله من جهة، وفكرة القتال والانغماس المستمر في حروبٍ تستنزف القدرات المختلفة، من دون أي رؤية أو مشروع من شأنه أن يساهم في صناعة المستقبل وحفظ المواطن وكرامته وتأمين ضروراته الحياتيّة، من جهةٍ ثانية.
للأسف يتخذ البعض مظلّة «الفتوى» أو التوجيه الديني لأعماله، فالقوى العقائدية دائماً ما تستند في أعمالها وحراكها إلى ذلك. وهنا لا بدّ من العودة إلى رؤية المرجعيّة الشيعيّة الأولى في العالم؛ إلى النجف. إلى رؤية السيد علي السيستاني للوطن والدولة والعلاقة بالمواطن، ورفضه القطعي لجعل العراق ساحةً لتصفية الحسابات الدوليّة والإقليمية، وضبط السلاح بيد الدولة، وبناء دولة تكون محاربة للفساد والفاسدين وعلى قدر آمال العراقيين، وجعل كفاءاتهم مسؤولة عن بنائها. ولكن هل من آذانٍ صاغية؟ لا أعتقد ذلك، فقد سبق أن صرّحت المرجعيّة بالقول: «لقد بُحّ صوتنا». ولكن – في الوقت عينه - هل يئست؟ وهل يئست القوى الوطنيّة رغم كل الأحداث التي وقعت؟ كلا. فهذا خلافٌ للمسؤولية الوطنيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة. هذا خلافٌ لكل مؤمن بالمسؤولية الملقاة على عاتقه بضرورة بناء الدولة ومؤسساتها، انطلاقاً من فهم حركة التاريخ وضرورات الدول في اللحظات المصيريّة.
في العراق اليوم نعيش حالةً من القطيعة – شبه المطلقة – مع المواطن، وقد تعزّز ذلك نتيجة سطوة السلاح وتمدّده، وابتلاع فكرة اللادولة لفكرة الدولة، فأصبحت الأخيرة أسيرة الأولى، ولم يعد بالإمكان التمييز بين الفكرتين وبين الفاعلين في المساحتين. وهذا ما يجعل الدولة ومؤسساتها في موقفٍ حرجٍ ليس أمام المجتمع الدولي أو الداعمين له من جيران وأصدقاء، بل أمام المواطن نفسه الذي يئس من العملية السياسية، وقطع أمله بإمكانية نهوض الدولة ومؤسساتها مجدداً، وهذا له نتائجه وتداعياته أيضاً.
هنا نسأل: كيف بالإمكان التعامل مع هذا العضال الذي بلغ ما بلغ من مراحل في جسد الدولة والمؤسسات والوطن؟ عادةً ما يتأثّر المريض بضغطٍ نفسيّ قد يفاقم وضعه سوءاً. وهذا حال الدول والأنظمة والشعوب في ظل تحولاتٍ قريبة منها وتتأثر بها. ولكن التهديد – عادةً – ما يشكّل فرصةً للمراجعة وإعادة بناء المقاربة للحفاظ على الوجود والمكتسبات والمستقبل...
وعليه تكمن الإجابة بضرورة العودة إلى الدولة والالتزام بفكرتها. بالعودة إلى الدولة والعمل وفق مصالحها وضروراتها، والنهوض بها، بعيداً عن الشعارات الرنانة التي كانت وقت الحقيقة كلاماً يملأ الأثير الإعلامي. بالعودة إلى الدولة والبحث عن حاجات المواطن والعمل على تأمينها؛ من الكهرباء والماء وفرص العمل الحقيقية (لا فرص العمل النفعيّة) والطبابة وغيرها. بالبحث عن كيفية ضبط السلاح والحدّ من تفلّته، والإعلان الصريح – من الجميع – بأن الدولة هي المسؤولة عن الخيارات الكبرى في البلاد. بالعودة إلى الدولة والإنصات إلى توجيهات المرجعية الدينية التي تنطلق من مسؤوليتها الشرعيّة في تحديد الأولويّات التي يجب العمل عليها لتحقيق ما هو خيرٌ للعراق والعراقيين. بالعودة إلى الوطن وحدوده، والابتعاد عن صراعات تتجاوز الحدود وتحوّل البلاد والعباد إلى أرقامٍ على خطوط الصراعات القائمة. بالعودة إلى فهم الموقع الجغرافي وفهم خصوصيات الآخرين والعمل لتحقيق المصالح المشتركة والتكامل الثنائي والثلاثي والجماعي، لا بالقطيعة والانحياز والتعسكر لصالح فريق على حساب آخر.
أسترجع هنا مقولةً للرئيس الشهيد رفيق الحريري، عندما قال: «ما حدا أكبر من بلده». نعم، صحيح يا دولة الرئيس لا يمكن لأحد أن يكون أكبر من وطنه، مهما بلغت قوته وقدرته والدعم المقدّم له. علينا أن نعود إلى بلدنا، إلى عراقنا، إلى الدولة ونعمل لأجلها، فالشعارات لا تبني ولا تحمي، بل قرارك وعملك ورؤيتك هي التي تبني.
هذا النداء وإن تكرّر لكنه ضروري في هذه المرحلة، وما نظام بشار الأسد إلا حقيقة شاخصة أمامنا، ودرس كبير يجب أن نتعظ به. هل نسينا صراعات القرن الماضي بين أبناء «الرجعيّة» وأبناء «التقدميّة»؟ وماذا قدّمت تلك الدول لشعوبها؟ وأين أصبحت اليوم؟
*رئيس الوزراء العراقي السابق