ماذا بعد سقوط الرهان الأوروبي على المرشحة هاريس، بعبارة أخرى ماذا بعد صدمة الفوز الساحق للمرشح ترمب؟ لا شيء يمكن حسمه، سواء في القارة العجوز، كما في مناطق ودول عديدة ما زالت تبحث عن مؤشرات يمكن البناء عليها لرسم سياسة للتعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة التي ستتولى زمام الأمور في العشرين من يناير (كانون الثاني) 2025.
وهنا يبدو أمران يثيران قدراً كبيراً من الارتباك؛ الأول أن الرئيس ترمب في عهدته الثانية لن يكون هو نفسه ترمب كما كان في العهدة الأولى، فالسنوات الأربع الفاصلة لعهدتين؛ سابقة خبرها الجميع وأخرى جديدة في علم الغيب، شهدت تغيرات كبرى في الداخل الأميركي وفي العالم ككل، وكل منهما مثقل بأزمات وصراعات تنذر بنهايات مدمرة ما لم يتم التعامل معها بعقلانية ومراعاة لحقوق المظلومين.
والثاني أن التصريحات والمواقف التي أعلنها المرشح ترمب في حملته الانتخابية لم تكن سوى شعارات زاعقة، بعضها يعيد التذكير بسياسات ومواقف للرجل إبان عهدته الأولى، وبعضها الآخر لا يعدو أن يكون سوى عبارات عامة حمالة أوجه، تفتقر لرؤية متكاملة أو خطة محددة تجاه قضية بعينها.
فالحديث مثلاً عن وقف الحرب في أوكرانيا أو في قطاع غزة ولبنان يعبر عن نية محمودة شكلاً، وفي الآن ذاته تفتقد إلى منهج متماسك، يُعنى بكيف سيتم وقف الحرب ووفق أي شروط، وكيف ستقنع واشنطن أطراف الحرب المباشرين بالتجاوب مع الخطة الأميركية حين إعلانها.حصيلة الأمرين أن حملة المرشح ترمب لم يصدر عنها ما يمكن اعتباره أفكاراً كبرى لمعالجة القضايا والأزمات التي يعاني منها الداخل الأميركي والعالم ككل.
ومن ثم تصبح معظم التكهنات حول ما الذي قد يجري في السنوات الأربع المقبلة مزيجاً من مخاوف وقلق بالدرجة الأولى، مع بعض الأمل لدى قليل من الذين يتماهون مع الأفكار الكلية للرئيس المنتخب ترمب ذات الطابع الشعبوي، والتي تؤمن بها وتمارسها الأحزاب اليمينية في القارة العجوز، خاصة ما يتعلق بطرد المهاجرين، وتحميلهم مسؤولية الكثير من المشكلات الداخلية. وكلا الأمرين يدفع إلى التفكير خارج الصندوق، مع أكبر قدر ممكن من الحذر، والاستعداد لصدمات مختلفة الحدة، وكل حسب الحالة المنظورة.
الحالة الأوروبية تمثل حالة مثالية لهذا المزيج من القلق والخوف من تقلبات السياسة الأميركية المتوقعة في السنوات الأربع المقبلة. لقد تعايشت القارة العجوز طويلاً مع القيادة الأميركية، ومع الضمانات بحماية أوروبا والدفاع عنها، كجزء صلب من الالتزام بحلف الناتو، وكذلك بذل الكثير من الأموال الأميركية لتثبيت هيمنة وقيادة واشنطن من جانب، ويقابلها الشراكة الأوروبية من منظور التبعية المطلقة من جانب آخر، مما جعل أمن أوروبا واقتصادها رهينة للسياسة الأميركية.
ويذكر هنا أن إدارة الرئيس بايدن نجحت بالفعل في استنزاف طويل الأجل للاقتصادات الأوروبية من خلال استغلال الحرب في أوكرانيا لوقف تدفق الغاز الروسي الرخيص لأوروبا، والاعتماد على الغاز الأميركي الأعلى سعراً بالدرجة الأولى، مما جعل تكلفة الطاقة في أوروبا ثلاثة أضعاف تكلفتها داخل أميركا، وهو ما أضر - وفقاً لرئيسة المفوضية الأوروبية - بتنافسية الصناعات الأوروبية مقارنة بمثيلاتها الأميركية. ونزيد أن خبر إفلاس 1540 مصنعاً وشركة في ألمانيا في العام المنصرم، التي يُتغنى باقتصادها القوي، يعكس حجم أزمة الاعتمادية الأوروبية المفرطة على القيادة الأميركية بأشكالها المتنوعة.
وهؤلاء الذين ينادون الآن في الدروب الأوروبية رسمياً بضرورة التفكير في منظومة أمن أوروبي مستقل، لا يغفل ولا ينكر التنسيق مع الولايات المتحدة تحت مظلة الناتو، وفي الآن ذاته يكون قادراً على مواجهة الأزمات ومصادر التهديد بجهود ذاتية وقدرات أوروبية خالصة حين تستدعي الضرورة، هم الآن الأكثر شعوراً بالقلق على مصير القارة وهويتها، والأكثر تعبيراً عن ضرورة أن تفكر أوروبا في بناء هيكلية أمنية خاصة، يمكنها العمل بكفاءة دون أي مساعدة أميركية.
لكن المطلب مهما كانت درجة عقلانيته، فالمهم أن تكون هناك إرادة أوروبية جماعية وأموال وخطط قابلة للتحقيق، وهنا تكمن المشكلة الكبرى لدى العديد من الدول الأوروبية التي تؤمن باستحالة، أو على الأقل الصعوبة الشديدة في توفير الأموال اللازمة لبناء منظومة أمن أوروبي ناجع، فضلاً عن أن التنافسات المنظورة وغير المنظورة بين الدول الأكثر ثقلاً أوروبياً، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمجر، تحول دون التفكير في مثل هذا التحول الدراماتيكي الكبير.
ومن التأثيرات المتوقعة، ولو بحذر، خوف قطاعات أوروبية تعتقد في تجاوز الدين والحريات المنفلتة والمثلية البغيضة، وكلها مرفوضة مبدئياً من قبل ترمب وأنصاره، وغالباً سيكون لها ارتداد على الداخل الأوروبي.لا أحد ينكر الرصيد الحضاري والعلمي الكبير لأوروبا، لكنه رصيد آخذ في التآكل بحكم التراجع في عدد السكان الأوروبيين الأصليين، وتراجع نسب المواليد في أكثر من بلد أوروبي، وتراجع معدلات الزيجات الطبيعية التي تنتج أجيالاً جديدة، وفي المقابل يشكل المهاجرون من أصول مختلفة نسباً تزداد عاماً بعد آخر في جملة السكان، وهنا تبدو مشكلة طرد المهاجرين أو إغلاق باب الهجرة أو تقييدها إلى أقل الأعداد، بمثابة قنبلة موقوتة، تحدث تغييراً كبيراً في الهوية الأوروبية، كما تثير المزيد من حجم القلق على الرصيد الحضاري الأوروبي في السنوات الثلاثين المقبلة.
وبالقطع فإن توجه إدارة ترمب الجديدة بشأن التخلص من المهاجرين تحت زعم أنهم غير شرعيين وتحديد أعداد المهاجرين الشرعيين إلى الولايات المتحدة سيجد صدى لدى أوروبا، ويعمق من قلقها على بقائها وهوية مجتمعاتها.