نستعجب كيف تُسارع القنوات العالمية إلى تغطية حدث صغير في بلدة نائية، أو حتى تعرف به بعد دقائق من حدوثه. هل تملك مراسلين في كل مكان؟ لا. لكنها تملك علوم الداتا وسخَّرَتها في العمل الصحافي.
هناك مثال شهير عن حادثة أذاعتها القنوات، لمجرد أن البيانات المستقاة من الأقمار الاصطناعية لاحظت «خروجاً عن المألوف». رافعة عملاقة تلتقطها الأقمار الاصطناعية في وضع عمودي، لكنها الآن ظهرت في وضع أفقي. لم يرسل أحد خبراً إلى القنوات، لم يكن في المحيط مراسل. لا شيء. لكن تقنيات التنقيب على الداتا، والموجودة منذ سنوات في غرف التحرير بالتعاون مع شركات عالمية، أرسلت إشارة تحذير إلى أن هناك شيئاً ما في هذه الإحداثيات. وبالفعل ظهر أن هناك انزلاقاً أرضياً في ذلك الموقع تَسبَّب في سقوط الرافعة.
وهناك طبعا السوشيال ميديا. في الدقيقة الواحدة تتداول السوشيال ميديا ملايين المنشورات من كل بقعة في العالم تحديداً. مَن يملك متابعة كل هذا؟ لا أحد. لكنَّ البرامج التي تتابع أنماط النشر تنتبه إن طرأ تغيير في مكان ما، مثل زحام بوستات أكثر من المعتاد في نقطة معينة. لا تعرف بالضبط ماذا حدث، لكن تعرف أن خارجاً عن المألوف حدث. تنبِّه غرفة التحرير. وتُمدّها بعيِّنة من المنشورات. إن وجدت غرفة التحرير أن ما حدث مثير للاهتمام ستتابع الخبر، ولو كان في بقعة ريفية نائية. ستتواصل مع شهود عيان وستقدم تغطية تفصيلية.
يمكنها أيضاً أن تستخدم «الأكواد» المضبوطة لكي تجعل الكومبيوتر رقيباً على الأخبار في مكان ما، نتوقع فيه حدثاً لكننا لا نملك وفرةً من العاملين يتفرغون له، أو لأن المتابع يعمل بمفرده وحان الوقت لينام. الكومبيوتر سيتفهم الأوامر المشروطة وينتقي من الأخبار ما وافق الشروط.
هذا يعني أن غرفة الأخبار الحالية، أو الفريق الصحافي الحالي مختلف اختلافاً جذرياً عن الفريق الصحافي في السابق. منذ استحداث صحافة الداتا (وهو مصطلح يختلف عن صحافة المعلومات) صار الفريق يعتمد على صحافيين أقل ومبرمجين وخبراء داتا ومحللي بيانات أكثر. وصار بالإمكان إجراء تحقيق صحافي «يكسر الدنيا» من على مكتبك. أو على الأقل التقاط الخيط الأوّلي، ولو كانت القصة في أمريكا اللاتينية وأنت جالس في جاكرتا. لم نستغنِ هنا عن الصحافي، لأن المرحلة اللاحقة تحتاج إلى صحافيين أكثر مهارة. والقصة ستخرج إلى العلن بفضل صحافيين يجيدون تقييم الحدث والسياق والمعنى، ويجيدون تقديمه في صورة جذابة. لكننا طبعا غيَّرنا المهارات التي يجب أن يحيط بها علماً، وشَدَدْنا أفقه إلى مجالات لم يكن يفكر فيها.
بعض الصحافيين يقاومون هذا التغيير، وهذا معتاد. لكنَّ الهوَّة في إيقاع عصرنا تتسع بشكل كبير، ومقاومة التغيير صارت سيئة الأثر بمتوالية هندسية. والذكاء الاصطناعي أضاف إلى الفجوة أميالاً.
المطلوب من الصحافي المعاصر الوعي بأدواته، كما يعي الطبيب القيمة التطبيقية لأجهزة لا يفقه عن صناعتها وصيانتها شيئاً. ربما يدفعه الفضول مع الاستخدام إلى فهم أساسها العلمي. وهذا جيد، كالسائق الذي يفهم أساسيات الميكانيكا. لكن تبقى هذه حرفة مستقلة بذاتها يختص بها فرع من المهندسين. حتى الدواء الذي يكتبه الطبيب مائة مرة في اليوم لا يستطيع تصنيعه، ولا يعرف عن محتواه إلا ما تخبره به الشركات. يعرف أثره على المرضى، وعلى هذا الأساس يستمر معه أو ينحِّيه. وكم من دواء تغيَّر غرضه بعد استخدامه، أو توقفنا عن استخدامه، لأن الطبيب جرَّبه بناءً على المتوافر لديه من معلومات من مصنِّعيه. الصحافي ليس مبرمجاً، ولا خبير داتا، وليس مطلوباً منه أن يكون. لكن المطلوب منه أن يعلم كيف يستخدم تلك القدرات في فريقه الصحافي. الصحافة ليست مهنة سامية كما قالوا لنا في الأفلام، ولا هي مهنة وضيعة، كما يقول الغاضبون منها ومن مشتغليها... هي مهنة، تتطور أدواتها. إن أحسنت استخدام أدواتها وواكبت تطوراتها أحسنت. وإن لم تفعل فسيجري عليك ما يجري على الكهربائي الذي أقسم أبو العبد أنه «لا كهربائي ولا يفهم في الكهربا».