لم يكن فوز حزب العمال البريطاني الذي حققه كير ستارمر من يسار الوسط حدثاً مفاجئاً، بقدر أن هذا الفوز الساحق في الانتخابات البرلمانية وبنسبة كبيرة هو الذي يحتاج إلى قراءة مختلفة بوصفه محاولة للخلاص من حزب المحافظين وأدائه طيلة السنوات الماضية على طريقة «ليس حباً في علي». وهو يتشابه إلى حد ما مع الفوارق الكبيرة بين الرافعة التي جاءت بالرئيس الأميركي جو بايدن 2020، لكنها لا تملك مناعة أو حصانة في حال وقوع رئيس الوزراء البريطاني الجديد في فخ الوعود الضخمة مع الأداء غير الجيد، والذي يتطلب عادة سنوات طويلة تفوق المدد الممنوحة للأحزاب السياسية بوصفها جزءاً من إشكالية يطرحها نقاد الديمقراطية والتمثيل والفترات الانتخابية.
خلع التنورة البريطانية القديمة هو ما أراده الناخبون البريطانيون من معضلة الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، وما تلاه من سنوات التراجع الاقتصادي، وإطاحة كثير من الوزراء المحافظين، من ديفيد كاميرون إلى تيريزا ماي، وصولاً إلى كارثة الأداء السيئ لبوريس جونسون مع جائحة «كورونا»، وحتى ليز تراس التي أقصيت بسبب انهيار الأسواق المالية، وهو الأمر الذي لم يستطع معه ريشي سوناك معالجة أزمات المحافظين السابقة، وإصلاح سمعة الحزب.
في ملاحظة ذكية من كاتب سيرة ستارمر، توم بالدوين الذي علق على فوزه بقوله: «لم يكن زعيم حزب العمال بحاجة إلى كتاب من 100 ألف كلمة لكي يسوق نفسه للأمة البريطانية بعد كل هذه الفوضى من المحافظين، وإنما كان عليه أن يقول جملة من 3 كلمات: «أنا لست منهم».
الشعارات السياسية والوعود باتت اليوم في محك الأداء الحكومي ولغة الأرقام، مع تهديد أَصحاب الصوت الأعلى «اليمين المتطرف»، والمزايدة دون سقف، والشعبوية التي تجد طريقها سريعاً إلى الحشود الغاضبة والمستاءة من الأوضاع الاقتصادية.
الملاحظة التي تخص منطقة الشرق الأوسط، وهي جديرة بالتأمل والكتابة والفحص، هي نسبة مساهمة القضايا الكبرى التي يهتم بها المواطنون من أصول عربية وإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين، والموقف من الاندماج والهجرة والإسلاموفوبيا على الانتخابات سواء على مستوى التأثير وهو أقل، وعلى مستوى جديد متصاعد وهو استمالة هذه الكتل الانتخابية المؤثرة على الأقل في فترة الانتخابات. ومن هنا يمكن رصد كثير من المقالات الصحافية في إسرائيل تحذر من تصاعد موجات معاداة السامية والتفاؤل الحذر الذي تبديه الأصوات العربية في بريطانيا، من وعود أخذ موقف من الجرائم الوحشية في غزة من قبل الكيان الإسرائيلي، وهو ما يتوقعونه من وعود انتخابية بزيادة الضغط على إسرائيل، ومقترحات لمشاريع مقاطعة وصياغة قانون اعتراف بالدولة الفلسطينية، وربما تتسع المطالبات مع نشاط اليسار داخل الحزب وقدرته على الاستجابة لضغوطات أعضاء الحزب ونواب البرلمان المسلمين، والذي سيجد بالطبع ممانعة من فئة ليست بالقليلة من البريطانيين المنضوين تحت مظلة تعاطف مع المسألة اليهودية، ممثلة في هيئات ومجالس ومنظمات يهودية - بريطانية.
لكن عدم إيقاف الحرب والذهاب إلى حلول سياسية وجذرية للقضية الفلسطينية، سيضعف من تلك الممانعة. فاليوم مسألة خطاب العدالة الذي يرتفع مع كل يوم يسقط فيه ضحايا السلوك الإجرامي في غزة، وعدم الاستماع إلى صوت العقلاء، خصوصاً في دول الاعتدال بقيادة السعودية، مما يفضي إلى تراجع صورة إسرائيل في المجتمعات الغربية وإعادة تموضعها بوصفها دولة تمارس أبشع صور الفصل العنصري والإبادة الجماعية واستهداف الأبرياء، وستكون مواقف دول مثل آيرلندا وإسبانيا والنرويج دافعاً لتشجيع صياغة موقف مختلف تجاه إسرائيل، ولو بدا شكلياً أو مجرد استرضاء للمزاج الشعبي العام.
وسؤال الأسئلة هو: هل يستثمر السياسيون الفلسطينيون بمختلف توجهاتهم هذا التأثير الذي قدم من أجله الأبرياء في غزة كثيراً من الدماء والمعاناة والألم والجوع، ويحاولون الخروج من مسألة الانقسام وتغليب المصلحة الذاتية والتنافس الآيديولوجي لإدارة الأزمة وتبعاتها، ويقدرون المواقف المشرفة لدول الاعتدال وعلى رأسها موقف المملكة العربية السعودية الذي عبرت عنه القيادة السياسية وجسدته اللغة الواضحة والصارمة لبيانات وزارة الخارجية والتحركات الدبلوماسية النشطة في طول العالم وعرضه، وبعيداً عن الشعارات والاستغلال من أجل قضيتهم ورفض أي تسويات أو مشاريع سلام قبل تسويتها؟...
هذا السؤال يطرح معضلة لدى النخب السياسية الفلسطينية في مقاربتها لإدارة الأزمات التي تحتاج لفهم سياق وتفاصيل هذه التحولات الإيجابية تجاه القضية وتعزيزها بالمصالحة، وتغليب مصلحة الفلسطينيين على ما سواها.