: آخر تحديث

سوناك... يبحث عن "قبر"؟

18
20
23

حينما تغيّب ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني (44 عاماً)، عن شطر من الاحتفال بذكرى يوم إنزال النورماندي في 6 حزيران (يونيو) الجاري، قفزت نسبة عدم الرضا الشعبي عنه إلى مستوى قياسي، مع أنه سارع بالاعتذار عن تصرّفه الكارثي. كان قرار مغادرته المبكرة تاركاً وراءه الملك تشارلز الثالث والرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون مع مئات من المحاربين القدماء محيّراً. فلماذا يُعرب عملياً عن قلّة احترام لهذا الحضور وللقوات المسلحة، مع أنه كشف قبل ذلك بأيام عن عزمه على تطبيق التجنيد الإجباري انطلاقاً من تقديره للعسكر وقدرتهم على تربية الجيل؟

نايجل فاراج، أستاذ الشعبوية البريطانية، وجد الجواب. فهو ادّعى أن خصمه فعل ما فعله "لأنه لا يفهم ثقافتنا" وليس "وطنياً" بما فيه الكفاية! أي أن زعيم أقدم الأحزاب البريطانية، الذي يدير أمور البلاد منذ نحو سنتين، غريب عنها جاهل بقيمها ولا يفتخر بالانتساب إليها! صحيح أنه ولد في إنكلترا، إلّا أن والديه من أصول هندية وهو يعتنق الديانة الهندوسية، وهذا يجعله في نظر فاراج وأمثاله أجنبياً!

لا بدّ من أن سوناك عرف العنصرية في طفولته، كما ذاق طعمها بشكل مختلف حينما بدأ يكدّس الملايين عضواً في الطبقة الأرستقراطية. وربما لم يتوقع أن تطلّ برأسها البغيض بعد وصوله إلى القمّة.

والحق أن فاراج نفسه رمى المسلمين البريطانيين أخيراً بالتهمة ذاتها، إذ زعم أنهم "لا يعرفون ثقافتنا". لم يثرْ ضدّه سوى المسلمين وبعض العاقلين من الملوّنين واليهود. ولم تهبط أسهم شعبيته، بل ارتفعت بعد إساءاته لسوناك. والأخير "همس" بعد أيام مؤكّداً وطنيته. لم يستهجن هذه "الطعنة" أو يعرب عن إحساس بالمرارة أو الألم، ربما لأنه "ما لجرح بميّت إيلام"، وهو سلفاً بحكم الميّت بنظر كثيرين!

للمراقب أن يقول ما يشاء عن ضعفه وقلقه الذي يرميه حيناً في أحضان اليمين المعتدل وأحياناً على أعتاب اليمين الشعبوي. تبنّى موقف البريكستيين من الهجرة التي صارت بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي محور الحروب الأهلية لهذا الجيل من حزب المحافظين، كما كانت أوروبا لسابقيه. واتخذ من "أوقفوا الزوارق" واحداً من الوعود الخمسة التي قطعها على نفسه في أول خطاب رسمي له في أوائل 2023، وهو إجراء متسرّع كلّفه الكثير من سمعته، وبدّد الكثير من المال العام، فيما كان المزيد من الزوارق المطاطية المحمّلة بطالبي اللجوء يصل بانتظام.

غير أنه يستحق أرفع جوائز الصبر. حافظ عموماً على هدوئه بينما كان حلفاء الأمس كسلفيه بوريس جونسون وليز تراس، ومن كان وليّ نعمتهم مثل سويلا برافرمان وزيرة الداخلية السابقة، يطعنونه في السرّ والعلن. وقلّما يردّ، وإن فعل نادراً ما يصغي إليه الآخرون. ظلّت الإشاعات تتردّد عن "مؤامرات" يُحيكها بعض النواب لإطاحته، وكانت هناك مطالبات برحيله حتى قُبيل دعوته للانتخابات. ولم يعاقب أحداً إلّا إذا تجاوز كل الخطوط الحمراء.

ربما كان مفرطاً بالتفاؤل بقدرته على تهدئة روع حزبه من خلال حسن إدارته الاقتصاد. وهاجس الاقتصاد لا يزال يلاحقه كما يدل بيانه الانتخابي. لكن كان يجب أن يدرك بفضل معرفته في هذا المجال، أن الحالة شبه ميؤوس منها. لقد ورث اقتصاداً بدأ يتهالك قبل تسلّم المحافظين السلطة في 2010 بسنتين بسبب الأزمة المالية العالمية. وتفاقم وضعه بفعل البريكست وكوفيد ثم كادت تراس تُجهز عليه نهائياً في 45 يوماً.

في نهاية السنة الأولى من ولاية سوناك، كان البريطاني ينتظر وقتاً أطول من أبناء كينيا مثلاً لرؤية طبيب عام! وكان ربع أطفال بريطانيا يعيشون تحت خط الفقر، كما نبّه غوردون براون، رئيس الوزراء الأسبق، قبل أشهر! ولم تعد بنوك الطعام، التي زادت من 35 في 2010 إلى 2800 حالياً، تكفي لسدّ رمق الجوعى. فمن أين أتاه الأمل بإمكان تحقيق تقدّم؟

سارع بإعلان انتخابات مبكرة لمفاجأة فاراج، الذي كان يهدّد المحافظين منذ مدة عبر حزب "ريفورم يو كاي" (إصلاح المملكة المتحدة). فالشعبوي الطامع بالنفوذ يستغل قضية الهجرة ليؤجج الخوف بين البريطانيين من الأجانب، كما استغل قضية أوروبا سابقاً. ويجد من يصفق له، على الرغم من وجود محتجين يعتبرونه مهرّجاً كذب على البلاد حين صنع لها البريكست الذي أخذه عنه جونسون ومايكل غوف وترجماه إلى حقيقة. أجبر وحده حزب المحافظين على التحرك يميناً، فشعبيته جعلت ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء الأسبق، يشعر بالهلع ويلتزم إجراء استفتاء البريكست الذي لم يجرّ الويلات على بريطانيا فحسب، بل "حطّم حزب المحافظين" على حدّ تعبير الإعلامي المعروف أندرو نيل.

وفاراج ماضٍ في عملية "قتل" حزب المحافظين وزعيمه في هذه الانتخابات. تقدّم على سوناك قبل أيام في استطلاعات الرأي بشكل غير مسبوق. وبلغت به الغطرسة أن صار يحلم بالحلول ثانياً في الانتخابات المقبلة وبتسلّم رئاسة الحكومة في الانتخابات التي تليها! هكذا، يحلم بتحقيق المعجزات على عادته. لقد تخيّل ذلك سبع مرات من قبل عندما خاض الانتخابات وخرج منها خالي الوفاض. لكنه سيعجّل على الأغلب بعد أسبوعين برحيل الزعيم وحزبه. وتفيد استطلاعات رأي أنهم سيفوزون بنحو 70 مقعداً (من أصل 344 مقعداً)، أي سيتكبّدون أكبر خسارة انتخابية لحزب حاكم منذ 1906.

في الأشهر الأخيرة، انشقّ نواب محافظون، وأعلن نحو 80 من رفاقهم أنهم لن يترشحوا ثانية. ثم قالوا لرئيس الوزراء الأمل بفوزك كأمل إبليس بالجنة. وأشاعوا أنه سينسحب، واعترف بعض كبار مساعديه بالهزيمة الوشيكة. والآن، انفضّ عنه الجميع، بمن فيهم المتبرعون، تدريجياً، وراح وزراء يتموضعون لأخذ مكانه. وهو يصرّ على الاستمرار!

يمضي في حملته الانتخابية على الرغم من "موته" المعلن. أم لعلّه يبحث عن قبر يليق بحزبه؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد