ألا ترى أن الخيوط الأولى لفجر النظام العالمي الجديد، تبشّر بأن نظريات هنتجتون وفوكوياما وأضرابهما، سيكون مآلها الرفوف؟ صاحب «صدام الحضارات»، بدلاً من أن يرتدي طيلسان العلماء والفلاسفة، أو خرقة المتصوفين، لم يجد للحضارات دوراً على الكوكب غير أن تتناطح كالكباش والثيران. أمّا مؤلف «نهاية التاريخ»، فقد ترك التأملات العرفانية الشنتوية في اليابان، ورياضة «الزن» و«الزازن»، ليغدو في الإمبراطورية حامل لواء تاريخ ينطّ إلى الأبد على قدم واحدة، الرأسمالية الليبرالية. لكن الرجل يملك من شرف العقل، فضيلة الندم على فعلته. مأساته هي: عن أيّ تاريخ سيتحدث مستقبلاً، بعد إعلانه نهاية التاريخ؟
دعنا من كل ذلك، فمحط آمالنا هنا، المفكرون والمثقفون العرب، فهؤلاء، يقيناً، في فلك الإعلام يسبحون، وهذه الكوكبة هي صانعة الرأي العام. لقد رأينا، وابتلينا بالرؤية، طوال عقود مديدة، ما يجري على البلدان والشعوب، عندما لا تكون تلك الكوكبة كوكبةً، كركبةً مثلاً، جعجعةً بلا طِحن. من الآن فصاعداً، على أعضاء ذلك الثنائي، الثقافة والإعلام، أن يعكفوا على دراسة الحضارات الشرقية والأفروآسيوية. يجب الاعتراف بأن الإلمام بالثقافات الصينية والهندية والإفريقية، محدود جدّاً في العالم العربي.
سوف نقع في أخطاء لا تغتفر، إذا نحن تخيّلنا أن بضع دقائق في موسوعة «وكيبيديا» أو غوغل ستعطينا فكرة إضافية عن الحكمة الصينية. سوف تكون للعالم العربي علاقات أعمق وأوثق، في مجالات شتى، مع شعب ملياري النفوس، له أربعون قرناً من الحضارة المتواصلة. المهمّ هو أنهم مختلفون جدّاً في طريقة التفكير. مثلاً: في الحكمة الصينية، عندما ندرس كونفوشيوس ولاو تسو، فعلينا أن ننسى كليّاً الفلسفة الغربية ممّا قبل الفلاسفة السقراطيين، إلى فولتير، روسو، هيغل، كانط، نيتشه، سارتر.. الحكمة الصينية مزيج من الفلسفة والتصوف. ومع ذلك، فإن الجسور والأواصر ممكنة جدّاً بين ثقافتنا العربية الإسلامية وميراث التنين.
الكتلة المليارية الأولى عالميّاً هي الهند، وهذا الأقيانوس البشري، له حضارة قرونية مماثلة للصين. بالرغم من أن العلاقات مع الهند تعود إلى العصر الأموي والعباسي خصوصاً، ووجود صلات وسيعة بين التصوف الإسلامي وتاريخ العرفان في الهند، وقرب المسافة الجغرافية، فإن أوروبا تفوقنا بأبعاد وآماد في الإحاطة بكل تاريخ الثقافات الهندية، وأدق تفاصيل تصوفها، وفلاسفتها المعاصرين، مثل جِدّو كريشنامورتي. أمام مثقفينا عمل طويل. لن تكون العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين والهند والقارة الإفريقية، كافية، فعندما تكون الكتلتان العملاقتان في القمة العالمية حصريّاً، سيكون العالم مختلفاً.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستباقية: على المثقفين والإعلاميين أن يكونوا واجهة العرب في العلاقات التي سيرسمها النظام العالمي الجديد.