: آخر تحديث

أهمية المبادرة

12
11
10

لا بد للإنسان من سعي في أعمالٍ يُصلحُ بها دينه ودنياه، ولن تستقيم حاله بإهمال السعي، ومعلومٌ أن فرصة السعي ليست مفتوحةً للإنسان متى وكيف شاء، بل هي محكومةٌ بعامل الوقت، ومرتبطةٌ بظروف الإنسان وأحواله البدنية والمادية، أما الوقت فساعاتٌ مُتعاقبةٌ تتناقص بمرور اللحظات، وليس من طبيعته التوقف والتريث انتظاراً لفلانٍ كيلا تفوته الفرصة، وأما الأحوال والظروف كالصحة والغنى فلا تخلو من تجددٍ وتغيرٍ، وهي تُسعفُ الإنسانَ الآن بما يَعوقُهُ عنه ضدُّها غداً، وليس بينها وبين أحدٍ تنسيقٌ وتفاهمٌ لتعلمه متى يُلائمُ أن يستنفر جهوده وأن يبادر، ومتى يُمكنه أن يأخذ راحته في الاسترخاء والتسويف، بل قد يكون الإنسان ممتَّعاً بكامل صحته في ساعةٍ، ويُسلبُ تلك النعمة في الساعة التالية عافانا الله وإياكم؛ ولهذا كان من اللائق بالعاقل أن يحمل نفسه على تعوُّد المبادرة إلى العمل الصالح النافع، سواء تعلق بدينه أم بمصالحه الدنيوية، وأن يضع نُصْب عينيه أهميةَ المبادرة، فلا يرضى أن يتخلى عنها في شؤونه على حسب ما يحتاج إليه كلُّ موقفٍ من أدوات المبادرة وضوابطها، ولي مع أهمية المبادرة وقفات:

الأولى: الأعمال الصالحة المأمور بها شرعاً مطلوبٌ فيها المبادرة، وقد تنوعت أساليب الأمر بأهمية المبادرة إلى الأعمال الصالحة، فمنها الأمر الصريح كقوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، وَقَوْلِهِ (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، ومنها التنبيه على فضل السبق إليها كقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى الجنة، ومنها التنبيه على عواقب التأخير، والتذكير بالعقبات التي تعترض الإنسان، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وهذا الحديث يُرشدُ إلى اغتنام فرص العمل ومقوماته، ومن جعله نبراساً يهتدي به في نشاطه، وتحرى اغتنام هذه الأحوال استقامت له بإذن الله تعالى أمور دينه ودنياه؛ فإن تطبيق ما فيه كفيلٌ بالاتصاف بالجدِّ والمثابرة، وهما مفتاح الخيرات والنجاح في أمور المعاد والمعاش، وإنما يُؤتى الكسول المتقاعس من قِبَل عدم تقديره لفرص الشباب أو الصحة أو الغنى أو الفراغ أو الفسحة في العمر ظنّاً منه أن استصحاب الموجود مكفولٌ له، ومتى أراد أن ينشط نشط، فلا يزال كذلك حتى يفوت الأوان.

الثانية: الأعمال الدنيوية يكمن سر النجاح فيها في التمتع بروح المبادرة، وإذا نظرنا في التاريخ والحاضر عرفنا أن الناجحين النافعين لأنفسهم ومجتمعاتهم وللبشرية جمعاءَ إنما هم ناسٌ تمتعوا بخاصِّية المبادرة واستغلال أوقاتهم وقدراتهم المادية والمعرفية في إنجازات مهمة، فاستحقوا بذلك التنويه بهم وتقدير تضحياتهم، وكلما كانت المبادرة أعمق وأوسع وأكثر طموحاً وابتكاراً أهَّلت صاحبها للوقوف في صفِّ الروّاد الذين تتخطى ثمرات جهودهم حواجز القرون والقارات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يليق بعاقلٍ أن يرى أنه غيرُ مؤهلٍ لبعض ذلك، ولا أن يزهد في تحصيله، لا سيما من وجد في نفسه مواهب خاصة ترشحه لأن يكون من المبرّزين في مجالٍ معينٍ، فتتأكد المبادرة في حقه، وتقاعسُ مثلِ هذا من قبيل إهدار النعمة وحرمان النفس والآخرين من المنافع المترقبة، وكما ينبغي أن يبادر أمثال هؤلاء بأنفسهم ينبغي أن يبادر ذويهم بتوفير متطلبات الارتقاء بإمكانياتهم وقدراتهم وتمهيد سبل الإنجاز لهم، وأن يبادر معارفهم وأصدقاؤهم بتشجيعهم بالكلمة الطيبة والإشادة البنَّاءةِ بعيداً عن التغرير والمبالغة السلبية.

الثالثة: المبادرة لا تعني المجازفة والارتجال وإهمال العدة، وتحكيم العاطفة في نبذ ميزان المصالح والمفاسد، والحماسة الفارغة البعيدة عن التوسط والاعتدال، فاقتحامُ مجالٍ من المجالات بلا عُدةٍ لائقة به، ولا معرفةٍ بضوابط وقواعد الانخراط فيه ليس من المبادرة في شيء، ولا فرق في ذلك بين العبادات الدينية والأعمال الدنيوية، ففي كلا المهمتين المطلوب روح المبادرة النافعة لا شكلها الصوريُّ المجرد، فلو بادر الإنسان بالقُربة قبل وقتها لم يكن مبادراً ولا مبرئاً لذمته، ولو كانت غير مؤقتة لكنه تحمس، فبادر بما يظن أنه المطلوب، ولم يرجع إلى من يفقه شروطها، ومن يعي الضوابط التي تُوزنُ بها، فليس مبادراً ولا محموداً، وهذا كما يحصل من أهل الأهواء والمفارقين لجماعة المسلمين فيما يتعاطونه من الافتيات على أئمة المسلمين وعلمائهم، وهم يدَّعون أنهم يُبادرون لمعالجة قضايا مهمة، والواقع أن هذا ليس مبادرة، وقُلْ مثل هذا في أمور الحياة الخاصة، فاستعجال الشيء فيها قبل الأوان، وبدون تحصيل شروطه يُفضي إلى تفويته، أو تحصيل صورةٍ منه لا طائل تحتها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد