هذا سؤال واقعي لكنه حافل بالمفارقات اللافتة بدرجة أقوى. السبب أن البحث عن العولمة بحضورها النظري وفي نتائجها يربط ولادتها تاريخياً بكتابين نُشرا بالإنجليزية، وترجما إلى العديد من اللغات الأخرى في العالم. الأوّل لمارشال ماكلوهان (1911 1980) أستاذ الإعلام الكندي ومطلق «القرية الكونية»، كتسمية عالمية في كتابه «الحرب والسلام في القرية الكونية»، والثاني لزبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جيمي كارتر بين (1977 و1981)، بعنوان «الدور الأمريكي بين جيلين في ضوء الثورة التقنية».
يركز المؤلف الأول على تجربة الحرب الأمريكية الهائلة في فيتنام، والدور الريادي الذي لعبته شاشات التلفزيون عندما أخرجت الناس من خانة المشاهدين المتنوعي الأحاسيس والمواقف والمشاعر، ودفعتهم نحو ميادين المشاركة بالآراء والمواقف ليختلطوا، أو حتّى يندمجوا بشكلٍ كامل بالعسكريين، والأسلحة، وأنواعها. وظهر في أمريكا، في السنوات اللاحقة شعار «ثورة الاتصالات» التي طوّرت الرغبة في الإنفاق والدعاية الهائلة للمسؤوليات الاجتماعية والجماعية، حيال الحروب، بهدف التقرّب من حاجات أجيال الشباب، ورفضهم المتنامي للعنف إذ تمّت إصابة الأهداف.
هكذا راحت الأغطية تسقط بقوّة عن أزمنة الحكّام والأحكام الفردية بهدف التبشير الزاهي العفوي بكلّ ما يؤلف مجتمعاً بشرياً جديداً واعياً ومنخرطاً في وقف آلام الحروب، وبشاعاتها.
وجاءت ولادة فكرة «القرية الكونية»، كما السحر الجميل ليحتل الأذهان وتُنسج حوله الأساطير عبر الجامعات والأبحاث الجامعية، مشكّلة منذ ظهورها الفكرة الجاهزة تماماً لرسم ملامح السوق العالمية الواسع، الذي يدحض معظم الأفكار الجامدة الكليّة التي كانت تزيد من تأكيد فشلها الأزمات والحروب المتنقّلة المتنامية، وتداعياتها الواسعة النطاق على مستوى الأمزجة البشرية.
فضّل بريجينسكي، في كتابه استعمال تعبير أشمل، هو «المدينة الكونية» على «القرية الكونية»، في ردّة فعل حادّة على مفهوم الجماعة، والألفة، والقرابة، والقيم، والبساطة، والعلاقات الحميمة، التي تنتجها الحياة غالباً، في القرى والأرياف، وهذه أمور غير واقعية بالنسبة إلى المحيط الدولي المسكون بالحروب والقتل. وقد يكون من العدالة نقد بريجينسكي باستبدال «القرية الكونية» ب«المدينة المتوحّشة المعاصرة» حتّى لو كانت المدن الكبرى مزدانة بالمساحات الخضراء، تظلّلها الأبراج الشاهقة، والواسعة، والمتداخلة، لكنّ جوانبها البشرية المظلمة تحمل الكثير من سوء العدالة والرفاهية والبؤس والانتحارات البطيئة.
استهلك مصطلح العولمة، ويستهلك الكثير من تفكير البشر وأعمارهم، لكن اللافت أنه مصطلح مطاطي عالمي، لم يتخلّص من هويته الأمريكية بعد. كان يصعب هضمه، أو ضبط تداعياته التغييرية بالمعنى النقدي العلمي، لا من العرب والمسلمين وحدهم، ولكن من معظم الشعوب الأخرى في العالم أيضاً، لأنه حوّل الكرة الأرضية، بأنظمتها وسلطاتها وشعوبها، إلى عالم اختلطت فيه مفاهيم حقوق الحياة، والموت، والحرية، والمسؤولية، والديمقراطية، إلى ما هنالك من مصطلحات أُفرغت من مضامينها، ستستوقف الباحثين في تأريخهم للقرن الحادي والعشرين، الذي يتجاوز باعتباره نقطة الانتباه والجذب والتحدي والتطور الأكثر وقعاً من نسف البرجين في 11 سبتمبر/ أيلول المخيّر، أوحرب العراق، وما تلاهما من حروب.
لنعترف بأنّ تزاوج التكنولوجيا مع الأحداث والحروب فتح الطريق أمام الهند والصين، والكثير من بلدان العالم، لأن تصبح أكثر انخراطاً في عالم التوريد الواسع للصناعات والخدمات. ولربما تحوّل العالم المكشوف جاذباً يفرض السرعة التي تفرضها نقرات الأصابع بعد انزلاق السهم فوق الشاشات لا للحفاظ على المواقع، بل للقبض على العصر، بحيث يصبح على البشر ونظمهم السياسية التكيّف معه، بطريقة مستقرة لا فرار منها. لا مغاور، أو كهوف في العالم أمامنا، ولا نتوءات، أو حواجز، أو تقاليد أو حدود تحجب العين أوالعقل والطموح، بل الانصراف الطبيعي إلى إعادة تأسيس المجتمعات، وعرض مشاهد حروبها، وتدميرها، أو محو تواريخها، ونسف آثارها وتراثها، بالحروب «الضرورية» لمعامل السلاح ومخازنها التي لا تشبع، تحت يافطة فكرتين أساسيتين، هما التغيير والتحوّل الدائمان، ولو بالقوّة النابعة من داخل، ومحاولة بسط المعرفة واللغة الإنجليزية سوقاً سهلاً لا متناهياً لتطلّعات البشرية. وعندما تتأهّب الدول العظمى للتغيير في أرجاء العالم تسبقها لغّتها نحو ميادين الأرض الخراب.