كان 2023 عاماً كارثياً من الناحية الجيوسياسية؛ فالحرب التي بدأت في 24 فبراير 2022 بين روسيا وأوكرانيا ما تزال مستمرة، وسرعان ما انضافت إليها الحرب بين إسرائيل و«حماس» بداية من 7 أكتوبر 2023.
لم يتراجع الجيش الروسي كما كان يأمل الأوكرانيون وداعموهم الغربيون. وفي الأثناء، توفي رئيس منظمة «فاغنر»، يفغيني بريغوجين الذي شكك علناً في سلطة بلاده، في حادث سقوط طائرة، وفقاً للرواية الرسمية. والغربيون الذين قرروا الانسحاب من روسيا من أجل فرض عقوبات عليها، سمحوا لها باستعادة 100 مليار دولار من الأصول المهجورة من دون مقابل تقريباً، والتي استطاعت الحكومة الروسية إعادة توزيعها لمصلحة تعزيز الوضع الداخلي.
وفي غضون ذلك، باء الهجوم الأوكراني المضاد، الذي بدأ في صيف 2023، بالفشل. والاحتمال الأرجح الآن هو تجمد الوضع العسكري، ما سيسمح لروسيا بالاحتفاظ بجزء من الأراضي.. وهذا ما يشكّل هزيمة ثقيلة للغرب.
المسألة الأوكرانية شكلت كذلك موضوعاً لنقاش حاد في الولايات المتحدة، حيث يتجادل «الجمهوريون» و«الديمقراطيون» حول ما إن كان ينبغي للولايات المتحدة الاستمرار في دعم أوكرانيا بشكل كبير أم لا.
والواقع أن البيت الأبيض ما زال يدعم كييف بشكل كبير، غير أنه إذا عاد دونالد ترامب إلى السلطة العام المقبل، فإن المساعدات الأميركية لأوكرانيا ستُعلّق. وحينها، ستكون روسيا قادرة على تحقيق النصر، على الأقل من الناحية التواصلية.
والواقع أن الخطأ الفادح الذي ارتكبه الغرب هو الخلط بين «المرغوب فيه» (إلحاق الهزيمة بروسيا) و«الممكن» (تشجيع الأوكرانيين على التفاوض). والواقع أن ميزان النِّسب الديموغرافية يصبّ في مصلحة روسيا؛ ذلك أن عدد الروس يفوق بأربع مرات عدد الأوكرانيين. كما أن صناعة الدفاع الروسية تعمل بكامل طاقتها، وتستفيد من دعم إيران وكوريا الشمالية. صحيح أن روسيا تأثرت كثيراً برحيل العديد من الروس الذين غادروا البلاد، وباتت معزولة عن العالم الغربي المتحد ضدها، لكنها بالمقابل ما زالت تحتفظ بأوراق داخل «الجنوب العالمي»، وقد جاءت حرب غزة لتصبّ في مصلحة أجندتها.
وفي 7 أكتوبر 2023، شنّت حركة «حماس» هجمات قاتلة على إسرائيل. وبعد ذلك، أطلقت إسرائيل عملية عسكرية واسعة في غزة للقضاء على «حماس»، شملت أعمال قصف واسعة النطاق أسفرت عن مقتل أكثر من 20 ألف شخص، وخلقت وضعاً إنسانياً كارثياً. وتحولت غزة إلى مقبرة للأطفال والنساء.
والحال أنه إذا كان لا شيء يبرر هجمات 7 أكتوبر، فإنه لا شيء يبرر القصف الهائل والعشوائي على السكان المدنيين الخاضعين للحصار أصلاً.
هذا الوضع في الشرق الأوسط يقدّم حجة حقيقية لروسيا ضد الغرب. ذلك أن هذا الأخير ما انفك يطالب بلدان «الجنوب العالمي»، البلدان غير الغربية، بفرض عقوبات ضد روسيا بحجة أنها «استولت على الأراضي بالقوة.. وقصفت السكان المدنيين». لكن الدول الغربية نفسها تعترف بحق إسرائيل غير المشروط في الدفاع عن نفسها، في حين أنها تفعل الشيء ذاته.
ولا شك في أنه سيكون ثمة ما قبل 7 أكتوبر، وما بعده في الرأي العام الإسرائيلي الذي أصيب بصدمة. ذلك أنه كان يظن أنه يعيش في ملاذ ومأمن من الأذى، لكنه اكتشف أن الأمر ليس كذلك. ولهذا، مثّلت تلك الهجمات صدمة قوية لإسرائيل. غير أنه سيكون هناك أيضاً ما قبل حرب غزة وما بعدها لأن صور السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة تحت القصف الإسرائيلي قد تكون أقل وضوحاً وانتشاراً على وسائل الإعلام في العالم الغربي، لكنها منتشرة في العالم كله، وستظل موشومة في الضمائر الجماعية.
في كلتا الحالتين، وبدرجات متفاوتة، هناك فرق في التقدير بين الدول الغربية وغير الغربية، فيما يتعلق بالحربين، فالدول الغربية تدين روسيا وتدعم إسرائيل. هذا في حين ترى الدول غير الغربية أنه من غير الطبيعي إدانة روسيا، وعدم إدانة إسرائيل. وهذا الاختلاف في التقدير ما انفك يتزايد ويعزل العالم الغربي عن بقية العالم.
*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية - باريس