يبدو الوضع في ليبيا اليوم على صفيح ساخن نتيجة إصرار قوى خارجية بعينها على تشجيع رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة على الاستمرار في تعنته برفضه مبدأ التداول السلمي على السلطة، والاعتراف بضرورة التخلّي عن مقاليد الحكم لفائدة الحكومة الجديدة المنبثقة عن مجلس النواب والتي يرأسها فتحي باشاغا، وهي بذلك تحاول أن تقفز على الواقع في ممارسات أقرب ما تكون إلى المراهقة السياسية في التعامل مع الملفات الكبرى والساخنة، هذا ما نراه على الأقل من تصرفات المستشارة الأممية وبعض السفراء الداعمين لمبادراتها العقيمة، والذين يحاولون تجاهل المعطيات السياسية والاجتماعية والحقائق الميدانية مقابل التمسك بقراءات سطحية وربما وهمية من الأساس لخارطة الأحداث والحسابات والأولويات.
فالجيش الوطني مثلا هو الحاكم الفعلي للمنطقتين الشرقية والجنوبية ولجانب مهمّ من المنطقة الوسطى، وكذلك لمنابع الثروة النفطية ولأغلب موانئ التصدير، وللحدود المشتركة مع الجزائر والنيجر وتشاد والسودان ومصر، وهو اليوم يدعم الحكومة الجديدة بقوة، ويعتبر في قطيعة تامة مع الدبيبة منذ توليه رئاسة الحكومة، أي قبل عام تقريبا، رغم أن ملتقى الحوار الذي جاء بما سميت بحكومة الوحدة الوطنية ما كان له لينعقد ولا ليشكل السلطات المنبثقة عنه لولا موافقة المشير خليفة حفتر.
أما المنطقة الغربية فهي ميدانيا تحت سيطرة الميليشيات ولا تزال تخضع لتدخل مباشر من القوات الأجنبية وفيالق المرتزقة، وسياسيا تخضع لنفوذ لوبيات مالية واقتصادية تدير شبكات الفساد والنهب الممنهج للمال العام، ولها مصالح مرتبطة مع قوى أجنبية تتكون من حكومات وشركات متعددة الجنسيات وشخصيات نافذة، وأول أهدافها ألا تستعيد الدولة الليبية سيادتها على قرارها الوطني وثرواتها، وألا تخرج من غيبوبة السنوات العشر الماضية، ومن البديهي أنه لا يمكن فصل الدبيبة عن هذا الواقع، إذ أنه واجهة لمراكز النفوذ تلك، وبالتالي فإن المستفيدين من بقائه في الحكم لا يريدون له مغادرة مكتبه في طريق السكة من الباب إلا إذا كان قد ضمن العودة من الشباك.
وبالنسبة إلى البعثة الأممية، فهي تعاني من الفشل الذريع الذي أصابها والذي جعل منها جزءا من المشكلة لا من الحل، فستيفاني ويليامز تعرف أن المال الفاسد لعب دورا حاسما في ملتقى الحوار السياسي بتونس وفي النتائج التي أفرزها من جنيف، وتدرك جيدا أن قوى خارجية كانت ولا تزال تتحكم في مجريات الأحداث وفق مصالحها، وهي اليوم عندما تتصرف فمن منطلق هويتها الدبلوماسية الأميركية أكثر من موقعها كمستشارة سياسية للأمين العام، ولاسيما أن مجلس الأمن يواجه خلافات حادة في قراءة أعضائه لمستجدات الملف الليبي، وأن واشنطن ولندن بالذات تعملان على ضمان الهيمنة على اقتصاد البلد الثري في شمال أفريقيا من خلال مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وأصحاب القرار فيهما من الإخوان وحلفائهم، وعلى مسارات الاستثمار المستقبلي في النفط والغاز والطاقات البديلة والأموال المجمدة وغيرها، وتبادران بصياغة مشاريع الحل وفق ما يتوفر لهما من ضمانات لتحقيق أهدافهما ولو عن طريق الحكومات الفاسدة كما حدث في العراق وأفغانستان وغيرهما. ولم يعد خافيا أنهما كانتا وراء تأجيل الانتخابات تحت غطاء التمسك بتنظيمها في موعدها السابق وهو الرابع والعشرون من ديسمبر الماضي، وذلك بهدف قطع الطريق أمام الطرفين الأساسيين في السباق أي النظام السابق من خلال سيف الإسلام القذافي والجيش الوطني من خلال شخصية المشير حفتر، بل إن باشاغا ذاته لم يكن مرغوبا فيه نتيجة ميوله الاستقلالية ورفضه لفكرة التبعية المطلقة لهذا الظرف أو ذاك.
من المؤكد أنه لم يعد هناك أيّ مبرّر للمراهنة على حكومة الدبيبة، خصوصا وأنها تفتقد إلى السيطرة على أغلب مناطق البلاد
فشلت البعثة الأممية في الدفع نحو توحيد المؤسسة العسكرية، وفي إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة عن الأراضي الليبية، وفي تأمين تنظيم الانتخابات، وفي إجبار الدبيبة على احترام تعهداته السابقة بعدم الترشح للاستحقاق الرئاسي، وفي إنزال العقوبات بحق المتورطين في عرقلة المسار السياسي، وفي إيجاد الطريقة المثلى لحل الميليشيات وجمع السلاح المنفلت وتحرير المحتجزين من السجون السرية التي تدار من قبل المسلحين، وفي ضمان إعادة المهجّرين والنازحين إلى مدنهم وقراهم. اليوم لا يزال هناك الآلاف من الليبيين والليبيات وراء القضبان بسبب مواقفهم السياسية أو هوياتهم الاجتماعية، وهناك ليبيون مضطرون للعيش خارج بلادهم أو في مخيمات بعيدا عن ديارهم، وهناك مجرمون متورطون في جرائم لا تسقط بالتقادم يتولون مناصب سيادية في مؤسسات الدولة بطرابلس، والأمم المتحدة لا تزال تتصرف كأداة لإدامة الأزمة وتأبيد الصراع بما يخدم المستفيدين منه.
أما السفير الأميركي ريتشارد نورلاند فيبدو أنه يعلن غير ما يبطن، هو يرى أن الدبيبة قادر أكثر من غيره على تقديم التنازلات لواشنطن، وإن كان فاشلا أكثر من غيره في التأسيس للخروج العملي من الأزمة.
يحتاج الإنسان إلى أن يكون مغفلا ليصدق حديث ويليامز ونورلاند عن إصرارهما على تمكين الشعب الليبي من الاستفادة من ثروته النفطية، فالحقيقة أن هناك من الليبيين من لا يزال في السجون السرية أو في ديار المهجر أو في مخيمات النزوح منذ أكثر من عشر سنوات، وهناك مئات الآلاف ممن يعانون الفقر والعوز والتهميش مقابل جحافل المليونيرات الجدد من لصوص المال المحصنين بشرعية وهمية لسلطات تخدم مصالح الخارج أكثر من الداخل ولاسيما عبر ديبلوماسية الصفقات والعقود والتنازلات.
على غرار مبدأ “ما يطلبه المستمعون” يعطي الدبيبة لكل طرف سواء كان داخليا أو خارجيا ما يرغب في سماعه، حتى أنه تجاوز كل الحدود في ذلك، وأصبحت كلماته تشير مباشرة إلى أنه في حالة ضحك على الذقون، وتلاعب بالمفردات وفق سيناريو يتم إعداده من قبل المشرفين على دائرة البروباغندا في حكومته، فالمهم بالنسبة إليه أن يستمر في الحكم وفي الإمساك بختم الصرف وقرارات التصرف، وهو لا ينوي التنازل عن منصبه مهما كانت الظروف، ولو اضطر إلى الدفع نحو حرب جديدة، طالما أنه يجد قوى خارجية تسانده وترى أنه أفضل من يخدم مصالحها.
والنتيجة ستكون الانزلاق من جديد في دائرة الصراع، وظاهريا هناك الكثير من المستجدات؛ تتقدم الحكومة الجديدة في إعداد ميزانية الدولة للعام 2022 لتعرضها على البرلمان الذي سيوافق عليها حتما، ويطالب رئيس المجلس من مؤسسة النفط بتوفير الإيرادات في حساب خاص بمصرف ليبيا الخارجي ومنع حكومة الدبيبة من التصرف فيه. وتنذر تقارير مخابراتية عددا من عواصم الغرب بإمكانية بدء احتجاجات في العديد من المناطق الليبية لغلق الحقول والموانئ النفطية، وتتحرك أطراف فاعلة في غرب البلاد في اتجاه التمرد على حكومة الأمر الواقع، ويتجه عدد من وزراء ووكلاء الوزارات في الحكومة المنتهية ولايتها إلى الاستقالة منها رفضا للعمل من خارج ضمانات الشرعية.
ماذا ستكون النتيجة عندئذ؟ من المؤكد أنه لم يعد هناك أيّ مبرّر للمراهنة على حكومة الدبيبة، خصوصا وأنها تفتقد إلى السيطرة على أغلب مناطق البلاد، ولا سلطة لها على منابع تدفق الثروة النفطية وموانئ تصديرها، وكل تصرفاتها باتت من خارج الشرعية، وأخطر ما في الأمر أنها في مواجهة مع حكومة أخرى تنافسها على السلطة والثروة والسلاح كذلك، ولديها أوراق يمكن أن تلاعب بها أصحاب القرار في تلك العواصم التي عادة ما تدفع إلى الأزمات دون أن تقدر على حلها.