: آخر تحديث
في شخصيات ذات أبعاد نفسية

سرديات لؤي فاضل المأتميَّة

19
25
20

في عالم السينما العراقية المعاصرة، موهبة اخراجية استثنائية متفرّدة، رصدت هموم المواطن العراقي وتركت أثرًا لا ينسى في قلوب الجماهير.

انه لؤي فاضل عباس، المخرج السينمائي العراقي، الذي حاز على مكانة عراقية وعربية واسعة بعد ان قدم عددًا من الأفلام السينمائية القصيرة حطم فيها التابوهات وأبهر الجميع في زمن قياسي نسبيًا، على سبيل المثال، (احمر شفاه)، و (قطن)، و (العرضحالجي)، و (أنظر إليهم)، و(الباستيل)، و (إطار)، و (فريم)، وغيرهم. ورحل عن عالمنا إثر حادث غامض، أثار من حوله العديد من الشكوك والتساؤلات. حيث انتشل جثة طافية مجهولة الهوية من نهر دجلة في يوم 13حزيران\ يونيو عام 2023.

ولكننا الآن، ونحن نحتضن افلامه ونسترجع مشاهده الفنية الرائعة، فقد تتراءى أمامنا سيناريوهات مختلفة ونجد أنفسنا مرغمين على التفكير في فك لغز رحيله المباغت من خلال تلك الاستعارات والاشارات المشحونة بالخطابات الاجتماعية والسياسية.

العرضحالجي
اسم الفيلم: العرضحالجي
المخرج: لؤي فاضل عباس
زمن العرض: خمس دقائق وثلاث وثلاثون ثانية
سنة الإنتاج: 2017

المشهد الأول: في ظهيرة خريفية باردة يجلس العرضحالجي نعمة، عند باب المحكمة القديمة الكائنة في شارع النهر، أحد الازقة البغدادية، محاطًا بمبنى ونوافذ وقضبان حديدية، وانعكاسات ظلال اشجار تتلوى بصمت على الجدران. ومقابل طاولته المتواضعة التي كتب عليها، "تبديل هويات الأحوال المدنية، تأشير زواج، تأشير طلاق، تأشير وفاة"، يردد أغنية المطرب فاضل عواد: 
حاسبينك مثل رمش عيونّه 
بعشرتك لينه
معاهدينك وانته كل العمر
وأيامه وسنينه

المشهد الثاني: تبتعد الكاميرا قليلاً ليتجلى المشهد في غمرة الظل والضوء كاملا. كما لو ان الشاشة انشقت الى نصفين، على اليمين المشرق، مبنى المحكمة، ولوحة كتب عليها، مجلس القضاء الأعلى، محكمة الاحوال الشخصية في الرصافة. نوافذ في الطابق العلوي وأخرى في السفلي، ثمة زخارف إسلامية، ومكيفات هوائية قديمة. غرفة مستقلة بيضاء اللون، على اليمين، بدت كما لو انها غرفة الحراس، وسيارة شرطة زرقاء اللون. 
على اليسار المظلم، يلملم السيد نعمة، ومن خلفه قضبان مغلقة لبوابة حديدية مرتفعة نوعا ما، اشياءه التي توزعت على الطاولة بشكل عشوائي كالأقلام والختم والاوراق للمغادرة بعد انتهاء عمله لهذا اليوم.
المشهد الثالث: يترجل شاب، في الثلاثينيات من عمره، عن دراجته الهوائية متوجها نحو السيد نعمة. يرتمى الشاب على كرسي متهالك بجوار الطاولة متوسلا بالعرضحالجي الا يغادر. وان يكتب له الاستدعاء من المحكمة ...ويؤكد له انه الاخير. يلقن الشاب، السيد نعمة، نص الاستدعاء لزوجته.
المشهد الرابع: ينتهي السيد نعمة من كتابة النص، يسلم الشاب الاستدعاء ويستلم اجره، يغادر المكان ببرود، تطير الورقة بفعل الرياح. 
المشهد الرابع: ورقة الاستدعاء على الأرض، تتقلب يمينا ويسارا، كتب عليها:

"بسم الله الرحمن الرحيم
السيد قاضي محكمة الأحوال الشخصية في بغداد الجديدة المحترم
طلب تبليغ
يرجى التفضل بالموافقة على تبليغ المدعى عليها السيدة فريال احمد عبد الله بالحضور امام محكمتكم الموقرة. يذكر صاحب الطلب انه منذ سنتين يقدم طلبات تبليغ حضور المذكورة انفا. وذكر انه تعرض للسخرية وعدم تصديقه ابدا. لان طلبه غريب وفوجئت به محكمتكم الموقرة...
علما ان كل طلبات التبليغ بالحضور امام المحكمة لم تصل الى المدعى عليها لإنها ميتة.
التوقيع: مصطفى ... حسن"

المشهد الأخير: يغادر الشاب هو الاخر، المكان، راكبا دراجته الهوائية. وثمة فستان انيق مع وشاح حريري على الرقبة، يتأرجح في الهواء علق في المقعد الخلفي. يتلاشى ظله رويدا رويدا بين الضوء وعتمة الطرقات والازقة الشاحبة.


طلب التبليغ الذي يُجسِّد المشهدية في الفيلم

لقد وجدت في فيلم (العرضحالجي)، وكذلك فيلم (قطن)، الذي سأتحدث عنه لاحقا، سلسلة من الموتيفات المأتميَّة، فقد كان فاضل يكثّف جهوده في التركيز على شخصيات سحرية ذات ابعاد نفسية عميقة، وربما حقيقية، مستمدة من الواقع العراقي الحزين، مثل شخصية الشاب مصطفى الذي فقد صوابه بعد رحيل زوجته إثر حادث ارهابي وكذلك الصبية راعية الغنم في فيلم (قطن)، وهي تشهد تلك التحولات الجسدية الهائلة، واكتشاف الهوية، في ظل البيئة القاسية والموت المحتم الذي يشير اليه التابوت المتوجه الى المقبرة في المشهد الموازي.  

لقد أدى مصطفى، الزوج العاشق، الشخصية الرئيسية في فيلم العرضحالجي، تحت تأثير فاجعة الفقد والخسارة ورفض الواقع، مونولوجا فرديا مؤثرا. تجاهل فيه السيد نعمة او المارة العابرين بين الحين والاخر وتوحد مع ذاته. وظل يبوح لنفسه عما يعتمل في داخله من مشاعر فياضة تجاه فريال، زوجته الراحلة. ساعيا إلى البحث عن الروحية والمعنى في حياته بعد الخسارة. محاولا ملء الفراغ الذي تركه غيابها، من خلال اثارة الشكوك والتساؤلات حول طبيعة وسبب الفقدان والتحقيق في الأمر وكشف الغموض المحيط به، فتارة يصف رغبته الشديدة في العودة إليها ولقائها مرة أخرى، وتارة يهددها بالطلاق. مونولوجا يقوم على تبسيط الخطاب السياسي الذي يحمل في طياته نقدا موجها. وجعله أكثر حساسية من خلال استبداله بالخطاب العاطفي المشحون بالاستعارات المجازية باللهجة العراقية، بين مصطفى وذاته، وبينه وبين وفريال. ليظهر المشهد طاقات ومواهب المخرج لؤي فاضل المتفردة التي تشق طريقها بنجاح نحو عالم النجومية.
 

يقول مصطفى: 
"قدرنا ان لا ننجب أطفال... لكن...لقد سبق واتفقنا على ان الانجاب في هذا البلد هو جريمة كونية... افترضِ اننا رزقنا ببنت جميلة مثلك، ثم قتلت بسبب انفجار احدى السيارات المفخخة، او المواجهات المسلحة التي تملأ الشوارع..."

"انتِ تحمليني أكبر من طاقتي... الذنب ليس ذنبي...لقد ضاع من هذا البيت كل شيء، ابحث في كل ركن منه على ماكينة الحلاقة...دهان المفاصل...الكنزة الرمادية، غرفة نومي... اين غرفة نومي...لقد مر عامين وانا ابحث عن غرفة نومي " 

وهنا يلمح فاضل/مصطفى الى ان محاولات الانجاب من قبل زوجته فريال، عن طريق الاخصاب المختبري، (التلقيح الاصطناعي)، او رحلة العلاج الى الشمال التي تسببت في كسر ساق فريال، قد ذهبت سدى كما هو حال العراقيين برمتهم. 
وان ضياع الأشياء من المنزل، على سبيل المثال، الكنزة الرمادية، ماهي الا ايحاءات الى فقدان الهوية والأمان، والحيادية والاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك في الوطن. وضياع ماكينة الحلاقة، رمز التطهير، وغرفة نومه، استعارة مجازية لضياع الخصوصية والرعاية، الحميمية والدفء، والعلاقات بين الانا وذاتها، وكذلك بين الانا والأخر، في المجتمع العراقي. 

اما السيد نعمة وهو بطل فيلم (العرضحالجي) وفقا للعنوان على اقل تقدير، فقد كان شخصية رمزية لم يتعد حضوره الفعلي حضور ماكينة الطباعة او أي شيئا اخر. فقد كان يسمع بلا مبالاة ويكتب بعضا مما يقوله مصطفى ثم يكمل ما تبقى من الاستدعاء كما يحلو له. شخصية تجسد مفهوم الديمقراطية والمحافل الدولية على سبيل المثال، الأمم المتحدة، او السلطات الحاكمة. ففي لقاء مع المخرج لؤي فاضل، نشر على صفحة مؤسسة رؤيا الإلكترونية، تحدث فيه عن شخصية السيد نعمة، وقال: "يعلم العرضحالجي أن الفجيعة والفقد أصابت عميله بالجنون، حيث تزوره الشخصية الأساسية كل يوم للتنفيس عن آلامه، كأنه طبيب نفسي. ولكنه عديم الإنسانية، لا يفعل شيئا لمساعدته. سوى الاستمرار بكتابة الرسائل وتقاضي الاجور." 
 


قطن 
إسم الفيلم: قطن
المخرج: لؤي فاضل عباس
مستوحى من قصة (قطن) للروائي العراقي، رائد القصة القصيرة جدا، إبراهيم احمد
زمن العرض: أربع عشرة دقيقة
سنة الإنتاج: 2013


يعتبر فيلم (قطن) من الأفلام المعقدة التي تدعونا للتفكير في العديد من الأبعاد والتناقضات التي تشكل الوجود الانساني. وعلى الرغم من حشو الفيلم بمشاهد متكررة، يوحي بعضا منها بالملل، وهي مشاهد غير مبررة في الأفلام القصيرة، كتلك التي ظهرت فيها الحافلة والصبية عدة مرات. الا ان التلاعب بالثنائيات المتضادة، يثير الفضول والحماس لاكتشاف المفارقات الرمزية العميقة في دلالة المشاهد والابعاد النفسية والاجتماعية لدى شخصية المراهق، على سبيل المثال.
علاوة على ذلك، الرسائل الرمزية التي حملتها تلك التوسعات والاضافات الى القصة الاصلية، مثل شخصية المراهق الصبي ونقطة التفتيش.

وهكذا يفتتح المخرج لؤي فاضل فيلمه (قطن)، بمشاهد من الطبيعة الريفية القاسية، البيت الطيني، الحمار والاغنام، والصبية. ومنذ اللحظة الأولى نعرف ان الفيلم يتمحور حول عالمين، نلحظ خلاله معاناة الصبية الوجودية من جهة ونتابع نقل نعش على متن عربة في الطريق العام، من جهة اخرى.
وكأنه يشير الى عالمين، العالم السفلي والعالم العلوي. عالم حرّ واخر خاضع.
تتوقف الحافلة في نقطة تفتيش، لدواعي امنية. يفتح النعش للتأكد من وجود جثة دون سواها. يغلق النعش بغطاء غير محكم. تغادر العربة نقطة التفتيش باتجاه المقبرة، بينما تجلس الصبية راعية الأغنام على العشب، تنهض تتحرك بضع أمتار وربما أكثر. تنتقل الكاميرا بعد هذه اللقطة المطولة الى الأرض الجرداء. ثمة مراهق صغير يجلس على الحجر، يدخن السيجارة، يستعرض فحولته على الصبية، يصفف شعره بقليل من البصاق، يتبادلون الابتسامات، تتركه وتمشي.

"وها هي الآن فتاة شاحبة تركب حماراً وتلكزه بعصبية وتصعد من الأرض المزروعة إلى الجانب الأيسر من الطريق... كانت عيناها الواسعتان شبه المكحلتين تدوران باتجاه البيوت التي مازالت موصدة الأبواب... عندما عاودها مغص الطمث وأحست بلزوجة تحتها ثم صار احتكاك أعلى فخذيها بجلد الحمار طرياً وناعماً. توقفت عن تحريك ساقيها وتوقف الحمار."

ثمة لوحة مرورية خضراء اللون كتب عليها باللون الأبيض: النجف الاشرف، 20 كم. من جهة أخرى، تحاول الصبية الخروج من مازق الحيرة. وبوشاح الراس تزيل بقع الدم من على ظهر الحمار. تغفو قليلا. بينما يتحرك غطاء النعش رويدا رويدا بفعل الريح وسرعة العربة. يشعر السائق بوجود خطا ما، تتوقف الحافلة.

"تخرج كتل القطن الصغيرة من تحت غطاء التابوت بتؤدة. مثل طيور تغادر الأعشاش. تطل برؤوسها أولاً: ترتعش خيوطها الناعمة ثم تتلاحم وتعود لتنبعج وتمد حوافها مع الريح ثم تتطاير. وحين يدفعها تيار الهواء خلف السيارة كانت تتلوى كما لو مرتبطة بمغزل. وتحط على جانبي الطريق، فوق الأشواك والحجارة وأحياناً على الصوى الملونة أو تندفع إذا كانت الريح قوية إلى البساتين القريبة، وأينما حطت ترف باستمرار متكورة أو مستطيلة، كأنها مازالت على أغصانها لم تقطف بعد. عشرات ومئات من القطع القطنية تتطاير كل يوم على هذا الطريق الذي تسلكه الجنازات باتجاه النجف..."
 
"...في ذلك اليوم وكان الوقت عصراً كانت قطعة كبيرة من القطن متوهجة البياض بحجم الحمامة تندفع من تحت غطاء تابوت متسخ. وبدلاً من أن تأخذها الريح التي كانت قوية في ذلك اليوم باتجاه البساتين حطت بها وبشكل سريع"، قرب الصبية، "جذبت قطعة القطن الكبيرة... دستها بين فخذيها...". يتمرغ الحمار بالتراب، يتقلب يمينا ويسارا قبل ان ينهض من جديد.
"كان الغسق والمصابيح مازالت مشتعلة تضفي على الطريق لوناً متموجا "... والحافلة تسير بينما تجر الصبية حمارها بهدوء.

<٠النصوص بالخط المائل هي اقتباسات من القصة الاصلية (قطن) للكاتب العراقي، رائد القصة القصيرة جدا، إبراهيم احمد >

قد يبدو الفيلم للوهلة الأولى سيرة ذاتية، او فيلم وثائقي، كما هي أفلام فاضل، الا ان الايماءات الصامتة المتبادلة بين المشاهد المتوازية للصبية والنعش، قد تفضي الى أكثر من ذلك. فقد تتحول الصبية إلى رمز التحرر والنضوج بفعل الطمث، في حين يمثل التابوت، القيود والتقاليد الاجتماعية. وقد يرمز الى الألم الذي يجمع ما بين الموت والطمث. او الى العبور والانتقال من عالم الى اخر، الى مكانة اجتماعية او وضع اقتصادي اخر، الخ، من خلال مفردات الطريق، على سبيل المثال، الطريق العام، الطريق الصحراوي، الحافلة المتحركة، التنقل على الحمار او مشيا على الاقدام في الأرض الجرداء. او قد يعكس أيضًا العمق الفلسفي والتأمل في المعنى الحقيقي للموت، والعدم، والحياة، والوجود.
 

فكرة النعش
اما فكرة النعش فقد تحيلنا الى فكرة نيتشه حول "موت الإله" ونهاية القيم الكلاسيكية والمعتقدات الثابتة. وربما، ما يريد قوله: هو ان الإله الذي كان يمثل أساس القيم الراديكالية في الماضي، قد مات، او (كان يجب ان يموت).
وقد يقدم الفيلم تساؤلات عن الهوية الفردية والجماعية. حين يظهر كلا من الصبية والنعش والحمار كممثلين للمجتمع العراقي، حيث تداهم حالة الطمث لأول مرة الصبية، وهو تحديًا فرديا مباغتا ثقيلا، لمعرفة مكانها وتحديد هويتها في هذا العالم وإدراك ذاتها في ظل الأعراف الاجتماعية، (النعش). أضف الى ذلك وضع وشخصية الحمار التراجيدية، في السياق الفلسفي، كـ كائن وحيد، مكتئب وصبور. وموقفه الوجودي القلق، الذي لا يختلف كثيرا عن موقف الصبية، وما تشعر به تجاه الكائنات المحيطة بها. حين تعقبت عدسة الكاميرا تلك الحيرة الوجودية التي انتابت الصبية الريفية عندما واجهت تساؤلاتها وشكوكها حول معنى الحياة واغراضها وغاياتها في ظل الظروف القاسية والتحديات الآنية. مشاهد تحيلنا الى ابيات من قصائد (لوسي) للشاعر الإنكليزي ووردزورث، والتي وصف فيها موت طفلة:

كانت تبدو عاجزة عن الإحساس
انها اثار الوجود الأرضي
لقد فقدت الحركة والقوة
انها لا تسمع ولا ترى
انها تجرجر اقدامها على الأرض
كما تتدحرج الصخور والاحجار والأشجار 

تساؤلات
ما الذي كان يعنيه فاضل/ كاتب القصة إبراهيم احمد؟ موت الصبية أم ولادتها؟ وما هو الغرض من استعراض الثنائيات المتضادة؛ القوة والضعف، حيث يتجلى الجسد كموقع للتحكم والاستبداد والتحرر في ان واحد. وفي هذا السياق، لابد لنا من الإشارة إلى أن من ضمن اهم القضايا التي تناولتها أفلام فاضل، هي قضايا المرأة والجنس والمراهقة.

لقد كان من الممكن احيانا ان يبتكر فاضل مشاهد سريالية، بالاستعانة بنص القصة الأصلي، ولكنه فضل ان تكون مشاهد واقعية كلاسيكية، على سبيل المثال، المشاهد التي تظهر الدماء في أكثر من مناسبة. لكن، بشكل عام، فان أفلامه غنية بالدلالات والايحاءات وان خياره هذا لم يكن عبثيا. 

لنعد الان الى مشهد نقطة التفتيش، وهي إحدى خيارات فاضل أيضا، التي أعزيها إلى سببين، الأول: تبرير تطاير القطن من النعوش المارة على الطريق العام، والثاني: للإشارة إلى دور السلطة. ففي الحواجز الامنية تتجلى السلطة بممارساتها الفعلية. فقد يجسد هذا المشهد الواقعي، مظاهر القمع والرقابة والاستبداد، وتأثيرها على الحياة اليومية وحقوق الأفراد. او لغرض التمويه ليس الا، فقد ترتبط نقطة التفتيش، التي يمكن أن تكون مجرد حاجز أو مبرر لإخفاء أهداف أكثر أهمية، مثل تلاعب بعض الشخصيات بالسلطة من خلف الكواليس. او ان يعكس التناقضات، التفتيش والتدقيق الصارم الذي يشير إلى وجود قوانين وضوابط، من جهة، والتجاوزات والانفلات الأمني من جهة أخرى. 
وقد يكون السبب ايضا وراء عدم إغلاق النعش بشكل محكم في نقطة التفتيش، تعبيرًا مجازيًا عن تقصير السلطة واستعراضًا مقصودًا لنظام فوضوي غير فعال، فشل في تقديم الحلول المناسبة للقضايا المجتمعية والسياسية العالقة. وبهذه الإضافة الذكية نلحظ انعكاس روحه النقدية وموقفه الجريء تجاه القضايا الملحة.

مشاعر وانفعالات
تتمتع أفلام لؤي فاضل بسحرها الخاص الذي ينبض بالحياة في لحظات مكثفة ومختصرة تتخللها لعبة ماكرة لا تستقر على وضع بعينه. فقد برع في خلق وبناء شخصيات ذات أبعاد نفسية معقدة، تعكس إما مشاعر وانفعالات حقيقية في العالم الحقيقي، أو تجسد رؤى وتخيلات المخرج.

تمتلك هذه الشخصيات دوافع ورغبات نفسية تتعارض مع بعضها البعض، وللمشاعر الإنسانية دورًا هامًا في توجيه سلوكها وأحداث القصة. علاوة على ذلك، خطابه العاطفي البسيط، الملغم بالألغاز، والذي يثير فضول المشاهد ويأخذه في رحلة مشوقة للغاية.
هذا بالإضافة الى التقنيات السيكولوجية مثل، استخدام الحوار الداخلي والرؤى السُريالية التي لعبت دورا حاسمًا في تأثير العمل الدرامي على المشاهد واثراء تجربته الجمالية، بالرغم من تأكيده أحيانا على الواقعية الكلاسيكية. 

يرسم فاضل صوره بانعكاسات الضوء الدراماتيكية. ومن خلال ثنائية الظل والضوء، على سطوح الجدران، النوافذ، الطريق، الشخصيات الخ، يجعلنا نتأمل في حقيقة الذات الإنسانية، وسيكولوجية المكان، ورسائل المخرج. 

لم ابحث في نوايا لؤي فاضل فهذا بعيد كل البعد عن ما اصبو اليه. ولست متأكدة ما إذا كان يرمي الى انتاج هذه التداعيات لكن الشواهد على ذلك في نصوصه المرئية قوية وهناك ما يثبت صحتها في أكثر من مشهد. وفي النهاية، من حق القارئ الحذق التمييز وفك الشفرات والطلاسم لاعتبارات خاصة به.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ترفيه