: آخر تحديث

باحات الأقصى تتنفس عبق رمضان

3
3
2

رمضان في القدس الشرقية ليس كأي رمضان، فهو مزيج من الروحانية والصمود، حيث تكتسي المدينة المقدسة بحلة رمضانية خاصة، تبرز فيها ملامح التراث والتقاليد التي تتحدى تقلبات الزمن. في هذا العام، ورغم الإجراءات الأمنية المشددة، يتوافد بشكل يومي عشرات آلاف من المصلين إلى باحات المسجد الأقصى لأداء صلاة التراويح، في مشهد يعكس مدى التعلق بالمكان وقدسيته. فالمسجد الأقصى ليس مجرد مكان للصلاة، بل هو رمز راسخ في هوية المقدسيين الذين يحرصون على إعمار ساحاته رغم كل التحديات.

الوضع الأمني في القدس الشرقية يظل أحد أبرز التحديات التي تواجه المقدسيين خلال رمضان، وعلى الرغم من الأجواء الهادئة نسبياً، لم تخلُ الطرق المؤدية إلى الأقصى من العراقيل المعتادة، حيث قامت القوات الإسرائيلية بتوقيف الشبان عند المداخل، والتدقيق في هوياتهم، وتسليم بعضهم استدعاءات لمركز "القشلة" في البلدة القديمة، ومع ذلك فإن هذه الإجراءات لم تمنع الآلاف من التوافد، بل زادتهم عزيمة على إحياء ليالي رمضان في رحاب المسجد العريق في كنف الهدوء والسكينة.

في ظلّ هذه الأوضاع، تلعب أوقاف القدس دوراً محورياً في تنظيم حركة المصلين داخل المسجد الأقصى، بالتنسيق مع لجان الكشافة ولجان الأحياء في البلدة القديمة، حيث توفر المئات من المتطوعين والمتطوعات الشباب لمساندة حراس وحارسات المسجد الأقصى المبارك في تسهيل دخول وخروج المصلين، وتنظيم توزيعهم داخل باحات المسجد، ما يسهم في خلق أجواء أكثر انسيابية وسط الازدحام الكبير الذي يشهده المسجد خلال ليالي رمضان المباركة.

إقرأ أيضاً: بين السلاح والسياسة.. جنين أمام معادلة معقدة

أمَّا الأسواق، فقد شهدت حركة نشطة مع دخول الشهر الكريم، حيث تزينت شوارع البلدة القديمة بالأضواء والفوانيس الرمضانية، واكتظت الأسواق بالمتسوقين الذين يبحثون عن حاجيات الإفطار والسحور. سوق خان الزيت، سوق العطارين، وحارات باب العمود كانت تعج بالحياة، إلا أن الغلاء كان الحاضر الأبرز هذا العام، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل ملحوظ، مما زاد من معاناة العائلات المقدسية التي تواجه أوضاعاً اقتصادية صعبة.

ورغم الأعباء المالية، لم يتخلَّ المقدسيون عن طقوسهم الرمضانية. فالموائد الرمضانية في الأزقة والبيوت ما زالت تجمع الأهل والأحباب، والقطايف تظل سيدة الحلويات في هذا الشهر الفضيل، فيما تنتشر نداءات الباعة التي تعلن عن أجود أنواع التمور والعصائر الرمضانية. ولعل أكثر ما يميز ليالي رمضان في القدس هو ذلك التمازج بين الفرح والروحانية، حيث تتعالى أصوات المآذن بنداء الصلاة، ويتوافد المصلون إلى باحات الأقصى في مشهد ينسي منغصات الحياة اليومية.

في المساء، يتحول المسجد الأقصى إلى واحة من السكينة، حيث تصدح جنباته بتلاوة القرآن، وتُرفع الأيادي بالدعاء، في مشهد يجعل من رمضان في القدس تجربة لا تشبه أي مكان آخر. فالقدس في هذا الشهر المبارك تصبح أشبه بمسرح مفتوح للتجلي الروحي، حيث تختلط الروحانية بعزيمة الصمود والارتباط بالأرض.

إقرأ أيضاً: أين أخطأت السلطة الفلسطينية؟

ولا يقتصر رمضان في القدس على الجانب الديني فقط، بل يمتد ليشمل الجانب الاجتماعي والثقافي، حيث تنشط الفعاليات المجتمعية التي تهدف إلى تعزيز الترابط بين سكان المدينة. تنتشر موائد الرحمن التي يقيمها الأهالي والتجار، لتوفير وجبات الإفطار للصائمين، في مشهد يعكس التكافل الاجتماعي الذي طالما ميّز أهل القدس. كما تشهد ساحات المسجد الأقصى جلسات روحانية ومحاضرات دينية تسهم في إثراء الأجواء الرمضانية وإضفاء بعد ثقافي على التجربة المقدسية.

إنه رمضان القدس، حيث لا تُقاس الأجواء بعدد المصلين فقط، بل بإرادة أهلها في الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم رغم كل التحديات. هنا يصبح مجرد السير في أزقة المدينة القديمة طقساً رمضانياً بحد ذاته، حيث تختلط روائح الخبز الطازج بأصوات المسحراتي، بينما يتجلى رمضان في كل زاوية وحارة، ليؤكد المقدسيون من جديد أن هذه المدينة ستبقى نابضة بالحياة، متجذرة في وجدان من يقطنها، ومضيئة بأرواح من يحيون لياليها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف