الحدث السوري حاضر اليوم في قلب إعلام العالم كله، وبكثافة واهتمام شديدين يفوقان في اعتقادي ما كان عليه الحدث ذاته منذ أربعة عشر عاماً، بل يكاد يكون الحدث السوري اليوم منفصلاً عن تلك الثورة التي امتدت على مدار عقد ونصف، إذ تبدلت مع طول الزمن معطيات كثيرة، حتى يمكن القول إنَّ رعيل البداية يغيب غياباً تاماً عما يجري اليوم في الساحة السورية، ولهذا الأمر دلالات مهمة وبعضها خطير، يكفي فقط أن نتنبه إلى أن التاريخ الذي أصبح معتمداً للنصر بالنسبة للمعارضة سابقاً - السلطة حالياً - هو الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024، يوم سقوط نظام الأسد، بينما المتعارف عليه دائماً أن يُعتمد تاريخ انطلاق الثورات - بعد أن تحقق أهدافها - كيوم وطني للبلاد؛ أما في سوريا، فسيُنسى يوم 18 آذار (مارس) 2011 مع مرور الوقت، ويبدأ العد من الذكرى الأولى للثامن من كانون الأول (ديسمبر)، وهذا إجحاف حقيقي في حق دماء السوريين التي روت تراب الوطن الذي لم نعرف بعد هل هو متماسك أم تمت مقاسمته؟!
أمر رئيس أود مقاربته في هذا المقال عن كيفية حضور الحدث السوري في الإعلام اليوم، وعن المهنية والموضوعية المطلوبتين في العمل الإعلامي، ولن أنطلق هنا من موقف نقدي تخصصي، وإنما من موقف المتابع والمهتم لأدق تفاصيل الشأن السوري، وكمسلم عربي يهتم بشؤون هذه الجغرافيا التي كانت وما زالت هدفاً استراتيجيا لكثير من القوى.
ثمة ثلاثة مصادر رئيسية للخبر السوري الآن، أولها وأشهرها وسائل الإعلام، ومؤسساتها المرئية، والمسموعة، والمقروءة، وعلى رأسها الوسائل التابعة للحكومة غير الدستورية والتي شكلت بطريقة أقرب لتشكيل فصيل أو جماعة. والثاني هو منصات ووسائل التواصل الاجتماعي ومحتواها الخبري المباشر وغير المباشر والذي يحتوي في جزء منه على الخبر الدقيق ونقل الصورة الحقيقية لما يحدث في سوريا، بينما يتمثل الجزء الآخر في الرواية المضادة المضللة، أما المصدر الثالث فهو الناس كيف يعيشون وكيف يروون القصص اليومية عن أحوالهم وأوضاعهم. وبين هذه المستويات الثلاث تتناقض الأخبار والمعطيات بين بعضها بعضاً؛ لدرجة يصل فيها المتابع السوري والعربي والعالمي إلى حالة من الضبابية وعدم اليقين. لندرك أخيراً أنَّ ما يجري على أرض الواقع شيء، وما يتم تداوله من أخبار عبر المصادر الإعلامية شيء لا يشبه الحقيقة ولا يمت لها بصلة. فما الذي يجري ويحدث في سوريا وكيف نفرق بين التضليل والحقيقة؟
راقبت كغيري من المتابعين والمحللين عن كثب كيف أنه، ومنذ الأسبوع الأول لسقوط النظام، كانت أغلب وأشهر الوسائل الإعلامية، العربية والعالمية، قد تموضعت وتمركزت كاميراتها ومكاتبها في دمشق، وافتتحت استديوهاتها في بث مباشر 24/7، إذ كان الخبر السياسي أولاً، وتحليلاته وأبعاده هو الهدف الرئيس الذي سعت الوسائل الإعلامية لتغطيته، ورغم محاولات وسائل عدة أن تذهب باتجاه التقارير والحوارات واستطلاع الآراء وغيرها من المنتجات الإعلامية، إلا أن ما أنجزته في هذا الخصوص كان دون المستوى المطلوب في نقل ما يحدث على الأرض حقاً، وهنا لا بد من طرح السؤال المهم؛ لماذا؟
ترد الأخبار السورية إلى الناس عبر المستثمرين ورجال الأعمال والأكاديميين والمختصين الذين يذهبون إلى "سوريا الجديدة" التي لا نعرف بوصلتها؛ يروي أحد هؤلاء أنه دعي مرتين للمشاركة على إحدى المحطات لمناقشة بعض القرارات الحكومية، مرة حول تغيير المناهج السورية، والذي قامت به الحكومة السورية على عجل ودون أدنى مراعاة لأي معايير تربوية أو مهنية، ومرة أخرى حول الفصل التعسفي للموظفين وتعطيل عمل المؤسسات القضائية رغم أن المجتمع السوري اليوم في أمس الحاجة لها، وفي كلا المرتين كان فريق الاعداد البرامجي للمحطة يعتذرون عن استضافته في اللحظات الأخيرة، بعد صدور التوجيهات إليهم من جهات مختلفة؛ لأن موقفه سيكون معارضاً لقرارات الحكومة المؤقتة.
بسبب هذا الموقف وغيره.. أصبح هناك انطباع عام لدى السوريين والمتابعين من الخارج أن هذه المحطات تعاني صعوبة كبيرة في استضافة من يستطيعون الحديث على وسائل الإعلام ولا يقفون موقفاً معارضاً لقرارات الحكومة وإجراءاتها على الأرض! ورغم رغبة بعض المحطات في أن تظهر بشكل مهني وموضوعي لكنها لا تستطيع ذلك! والسبب أنها تريد في برامجها الحوارية أن تستضيف مؤيدي الحكومة أولا، وجزءاً من المعارضة المسموح بها؛ فهم يريدون لهذه البرامج أن تضم عادة ضيفين اثنين، أحدهما يتفق مع إجراءات وقرارات الحكومة المؤقتة والآخر يعارضها ضمن الأطر المتفق عليها مسبقاً، ولأن غالبية ضيوفهم، كما غالبية الشارع، تعارض مجمل القرارات الحكومية، بات من الصعب إيجاد من يدافع عن هذه قراراتالحكومة ومواقفها الملتبسة، وحتى عندما يجدون ضيوفا مناصرين؛ غالباً ما تكون حججهم واهية ولغتهم ركيكة، ولا يستطيعون إقناع المشاهد برأيهم.
على الجانب الآخر، لفت التفاعل القوي على وسائل التواصل الاجتماعية الأنظار والانتباه مقارنة بالمحطات والوسائل الإعلامية، بل في كثير من الأحيان تفوقت صفحات التواصل الاجتماعي، وبخاصة منصة فيسبوك الأكثر شهرة وانتشاراً لدى السوريين، على وسائل الإعلام في أكثر من نقطة، ورغم ذلك لم يكن متاحاً نقل ما يجب نقله عن سوريا؛ وذلك لأسباب عدة، أهمها أن الحرية التي تُعدّ عصب الإعلام الاجتماعي وشرط جودته الرئيس لم تكن منظمة ومسؤولة بالقدر الكافي، إذ لم يكن أغلب السوريين الذين ينشطون على وسائل التواصل قادرين على التعاطي الحر والموضوعي مع الحدث بعد عقود من التضييق والقمع والاستبداد. الأمر الذي حول هذه المنصات والصفحات والحسابات الشخصية إلى ميادين للمهاترات وتبادل التهم والشتائم، وإلى التهديد في كثير من الأحيان، مما جعل الناشطين الحقيقين أصحاب المحتوى الهادف والحرفي في وسائل التواصل، ينسحبون من المشهد العام ويلتزمون الصمت لشعورهم باللاجدوى غالباً، ولكيلا يتم إجبارهم على تبني ما لا ينسجم مع قيمهم ومبادئهم! وهكذا تحولت أغلب منشورات صفحات التواصل لصوت واحد يتردد صداه؛ أي بالمعنى الشعبي أصبح الصوت الأكثر صخباً هو "التطبيل والتزمير" للسلطة السورية الجديدة، وباستخدام المصطلحات ذاتها التي كانت تُستخدم لتوصيف مثل هذه الحالة أيام النظام البائد.
يبقى المصدر الثالث، وهو الأخبار الشخصية والفردية التي تنقل بشكل صادق وصريح دون أي تجميل أو تزييف، حيث يروي المجتمع السوري قصصه اليومية بما فيها من ألم وقتل ودم وتعدي وخوف؛غير أن المصدر الرئيس لهذه الأخبار غير متاح للجميع ممن هم خارج سوريا، بل فقط لأولئك الذين تربطهم علاقات قرابة أو صداقة مع المجتمع السوري، وأنا أحدهم، إذ تربطني علاقات صداقة مع أفراد من أغلب مكونات المجتمع السوري، ومن مختلف المناطق والمستويات الاجتماعية والثقافية، وأسمع من هؤلاء الأصدقاء الذين يأخذون الصورة الحقيقية من أهاليهم في سوريا.
والآن، وبعد مضي شهرين على هروب الأسد وترك البلاد لحالة الفراغ والشغور السياسي والدستوري والقانوني، يمكنني الزعم أن ما حدث في سوريا وما زال يحدث حتى الآن هو أكبر، وأكثر بكثير، مما سمعناه على القنوات الفضائية وفي نشرات أخبارها، وأن الحوارات الجاهزة والمعدة مسبقاً والتقارير الموجهة والضيوف المنتقين بناء على معايير مسبقة، لا تعكس من الصورة الأصلية سوى جزءاً يسيراً جداً لا يكفي البتة للتفسيرأو نقل الواقع. فأولاً لم تنجح المحطات الإعلامية إلا في نقل الخبر السياسي الذي رغم كثافته فإنه لا يحمل سوى مضموناً واحداً فقط، هو إما استقبال السلطة الجديدة للوفود السياسية الخارجية، الإقليمية أو العالمية، أو زيارة أعضائها للدول الأخرى، على مستوى وزيري الخارجية والدفاع في الأسابيع الماضية، ثم على مستوى الرئيس السوري الجديد، السيد أحمد الشرع، مؤخرا.
أما وسائل التواصل الاجتماعي وصفحاته فقد أصبحت مصدراً لا ينضب للشائعات والأخبار الملفقة التي تؤثر سلباً على استقرار المجتمع وأمنه بعد الهزات الأمنية والاقتصادية العنيفة التي تعرض لها خلال الفترة السابقة، وما يزيد من تأثير هذه الصفحات هو غياب المصدر الإعلامي الموثوق حتى الآن ومعه الرواية الرسمية الحقيقية وذات المصداقية، إذ ما زالت الحكومة وأغلب وزاراتها بلا ناطق رسمي أو شبه رسمي، وحتى لو وُجد الأخير فإنه ما زال بطيئاً في تحركه وعاجزاً عن مواكبة الخبر على الأرض بالسرعة والدقة المطلوبتين، عوضاً عن أنه سيتحدث من ورقة مكتوبة مسبقاً لا يستطيع الخروج عن عناوينها.
وحدها الأخبار التي يمكن الحصول عليها بشكل فردي وخاص، ومن أشخاص موثوقين وحاضرين في ميدان الخبر، تقدم صورة واضحة نوعاً ما عمّا يجري على الأرض، ولكن نقل هذه الصورة إلى مستوى الخبر الإعلامي ما زال متعذراً. وهذه شكوى محطات ومواقع إخبارية مرموقة عربياً ودولياً؛ إذا يقول أحد الصحفيين الذي يعمل لجهة إعلامية غربية تتصف بالرصانة، "أنه حين يتاح لك أن تتواصل مع هؤلاء الأشخاص على الأرض ستعلم أن استتباب الأوضاع الأمنية ما زال في أدنى مستوياته، وأن السلم الأهلي والمجتمعي ما زال مهددا حيث لا يأمن آلاف السوريين اليوم على حياتهم وممتلكاتهم". ويضيف أما عن الأوضاع الاقتصادية فقد تخبرك وسائل الإعلام عن التحسن الاقتصادي المزعوم نتيجة تحسن سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، كما قد تخبرك عن الانخفاض الجزئي لبعض الأسعار نتيجة هذا التحسن الوهمي كما يسميه السوريون اليوم، وعن تحرير السوق وفتح باب الاستيراد على مصراعيه، لكن لن تنقل لك وسائل الإعلام أي معلومات أو إحصاءات عن تزايد البطالة والفقر وتوقف الإنتاج وتعطل المصالح والمهنوعدم القدرة على دفع رواتب الموظفين وإنهاء خدمات عدد كبير منهم وصرفهم من العمل.
هل يعلم العالم الذي يرحب بالحكومة غير الدستورية أن معظم السوريين يحللون الوضع الاقتصادي أفضل من الحكومة وقراراتها؛ فعندما يتم وقف رواتب أكثر من مليون موظف عام في وزارة الداخلية والدفاع وباقي الوزارات الاخرى بشكل نهائي. وتجميد كل الاموال المودعة في البنوك للمصانع والمواطنين، وفتح الحدود لإدخال كافة انواع البضائع بدون جمارك؛ تكون النتيجة خسارة حوالى 40 بالمئة من موظفي القطاع الخاص لعملهم بسبب توقف معظم المصانع المحلية، وبسبب الاستيراد بدون جمارك. وتجفيف الليرة السوريةمن السوق وخسارة الموظفين لعملهم. وخروج العملة الصعبة الى مصانع الدول المجاورة بدل المصانع المحلية؛ بالتالي أجبر المواطن السوري على صرف مدخراته الضئيلة من الذهب والدولار لشراء المحروقات والمواد الغذائية المستوردة. فهل تستطيع الحكومة تقديم شرح دقيق عن نهجها الاقتصادي العشوائي والذي قديوصل الدولة إلى حالة الإفلاس؟
مرة أخرى.. إذا كانت الأخبار السياسية مشغولة بالشأن الخارجي واستقبال الوفود في الداخل أو الزيارات الحكومية للخارج، فلا أحد منشغل بالشأن الداخلي وأخبار تعطل الحياة السياسية السورية وتأجيل الحوار الوطني لأجل غير مسمى، ولا عن الخطوات التي يجب أن تقوم الحكومة بها تجاه استئناف العمل الدستوري وإطلاق العملية السياسية التي ينبغي منحها الأولوية كي تنال الحكومة الحالية الاعتراف الدولي، وكي تبدأ الخطوات الجادة باتجاه رفع العقوبات وتطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول الأخرى.
في الختام، يتضح أن المشهد الإعلامي السوري محاط بتحديات جمة، تتراوح بين التضليل والمعلومات غير المكتملة. وبين وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، وبين الروايات الفردية الصادقة، يضيع صوت الحقيقة. تلك الفجوة الإعلامية تعكس واقعاً معقداً ومؤلماً يعيشه المجتمع السوري. لذا، يبقى على الإعلاميين والناشطين القيام بمسؤولياتهم تجاه نقل الصورة الحقيقية بموضوعية وصدق، مع إدراك أن التحدي الأكبر يكمن في المقدرة على التفريق بين الشائعات والحقائق، لضمان أن تصل المعلومة الصحيحة إلى الجمهور، وأن يُسمع صوت الواقع الحقيقي في ظل كل هذا الضجيج الإعلامي وجعجعته.