في مقال له الشهر الماضي، كتب توماس فريدمان عن خياران لاثالث لهما وضعتهما إدارة الرئيس بايدن أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كي يفاضل بينهما وهما رفح أم الرياض، بمعنى القبول بتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية مع ما يترتب على ذلك من مكاسب استراتيجية لإسرائيل بما في ذلك انهاء العزلة الدولية التي تسببت فيها حرب غزة، أو الإصرار على اجتياح رفح بتكلفته الهائلة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وبقاء حالة العزلة الدولية المفروضة على إسرائيل.
الشواهد للوهلة الأولى تقول أن نتيناهو اختار فيما يبدو اجتياح رفح والتضحية بتطبيع العلاقات مع أهم دولة عربية وإسلامية، ولكن تحليل الواقع قد لا يكون كذلك. بعض التقارير الإعلامية اعتبرت مقال فريدمان بمنزلة عرض سعودي ضمني لانهاء الحرب والحفاظ على المدنيين الفلسطينيين مقابل قبول المملكة العربية السعودية بالانخراط في عملية التطبيع التي تتفاوض عليها مع الولايات المتحدة منذ فترة طويلة.
بلاشك أنه لا يمكن البت في مسألة وجود عرض سعودي بهذا المعنى أم لا، ولكن المؤكد أن هذا المقترح يعبر عن رغبة حثيثة لإدارة الرئيس بايدن وليس للمملكة، فالسعودية ليست في عجلة من أمرها فيما يتعلق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل ووضعت النقاط على الحروف بشكل دقيق منذ بداية أزمة غزة، وارتهنت تطبيع العلاقات مع إسرائيل بشروط واضحة من بينها وجود أفق واضح لاقامة دولة فلسطينية، في حين يبدو موقف إدارة الرئيس بايدن في عجلة من الأمر بالنظر لاعتبارات عدة أهمها ضعف موقف الرئيس بايدن في استطلاعات الرأي العام الأمريكي في مواجهة منافسه الرئيس السابق ترامب، وبالتالي فإن بايدن يحتاج طوق انقاذ من العيار الثقيل لتعزيز فرصه الانتخابية، ولن يتحقق ذلك سوى باختراق نوعي كبير على صعيد السياسة الخارجية من خلال التوصل إلى صيغة تحالف استراتيجية تحقق المصالح الأمريكية وتصب في الوقت ذاته في مصلحة إسرائيل، وتؤكد للدوائر اليهودية الأمريكية مستوى حرص الرئيس بايدن على مصالح إسرائيل وأمنها واستقرارها وسط جيرانها العرب.
قناعتي أن نتنياهو لم يتجاهل ملف التطبيع مع المملكة العربية السعودية، ولكنه قدم مصالحه السياسية الذاتية على مصالح الرئيس الأمريكي، حيث يدرك نتنياهو تماماً أن وقف الحرب لن يمهله حتى يوقع قرار التطبيع مع المملكة العربية السعودية، بل سيصبح مصير حكومته الائتلافية على الفور في مهب الريح سواء بسبب انسحاب وزراء اليمين المتطرف أو بسبب الغضب الذي يعتمل في الشارع الإسرائيلي ويطالب بانتخابات مبكرة ومحاسبة المسؤولين عن كارثة الهجوم الدموي في السابع من أكتوبر 2023. ولكن إخراج قرار اجتياح رفح جاء مختلفاً هذه المرة ويجري تنفيذه بهدوء وبعيداً تماماً عن أنظار الإعلام الذي تسبب في انتقادات دولية هائلة لإسرائيل على خلفية وقوع الضحايا المدنيين من الفلسطينيين.
فريدمان نقل عن القيادة السعودية رؤيتها القائلة بأن فكرة القضاء على "حماس" مرة واحدة وإلى الأبد" حلم بعيد المنال وصعب التحقيق، وهذه رؤية استراتيجية قائمة على فهم وإدراك كامل لأيديولوجية الحركة، التي تحتاج بالفعل إلى فترة طويلة لاجتثاث جذورها الفكرية، باعتبار أن المسألة لا تتعلق بالأفراد بقدر ما ترتبط بالفكر الحركي الذي يعد العامل الأقوى في التعاطي مع هذه التنظيمات. واعتقد أن نتنياهو والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية تعرف هذه الحقيقة ولكنها وقعت فريسة رغبة عارمة في تحقيق نصر سريع وحاسم على حركة "حماس" لاستعادة الهيبة والصورة والمكانة على أن يتم ترحيل هدف اجتثاث جذور الحركة لمراحل لاحقة زمنياً وفق خطط مرحلية تردد أنها ستطبق على المستويات التعليمية والثقافية والسياسية والاجتماعية وغيرها.
المسألة إذا من وجهة نظر فريدمان أو نتنياهو هي مسألة أولويات، حيث خيار التطبيع الذي تفضله إدارة بايدن والدول العربية المعتدلة، وخيار اجتياح رفح وهزيمة حماس الذي تتوقف عليه حياة نتنياهو وحكومته ومستقبله السياسي.