: آخر تحديث

للبيانات أيضاً.. نفايات!

3
3
2

جديد اليوم هو التركيز على أهمية «نفايات البيانات» تلك التي كانت تُجمع بإهمال وتُشكِّل مُشكلة في حجمها المُتزايد وعدم جدواها أمام البيانات المهمة.
وعندما نقول البيانات المهمة، نعني تلك التي تهتم وسائل التواصل الاجتماعي بها، تجمعها بعناية وتُفرزها في مَلفات خاصة للاستفادة القصوى منها ووضع الخطط التسويقية لها، بهدف التأثير في ثقافة وتوجه المُشاركين من أجل مَصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ورغم أنها بقيت قضايا مفتوحة في المحاكم، برز الآن ما هو أشد خطورة منها.
«نفايات البيانات».. بعد أن تأكد أن لها خاصية وميزة في التنبؤ بمستقبل التوجهات والسلوكيات، سواء للفرد أو للمجتمع. ولكن ما هي هذه النفايات؟ هي بكل بساطة قيام المُشارك في وسائل التواصل بالتعليق أو حتى بمجرد إبداء إعجاب بمنشور آخر.. وهي أيضاً تلك المنشورات التي مرّ عليها الزمن ولم تعد ذات أهمية، سواء كانت صوراً أو فيديوهات أو نصوصاً كتابية، ولم تستفد منها البيانات المهمة في حينها. هنا كانت الخوارزميات تجمعها لتلقي بها في سلة المهملات. إلا أن ما برز اليوم هو اكتشاف المُشاركين لحقيقة أن ما يفكرون فيه يظهر فجأة على الويب بشكل إعلان أو نصّ مُشابه لما مرّ في أفكارهم، حتى قبل أن يُعبّروا عنها.
هذه الحالة عندما تكررت، أظهرت أن تلك الخوارزميات طوّرت نفسها، وأصبحت تتنبأ بسلوك المُشارك المُستقبلي. وهكذا بدأ المُطورون العمل على ملفات جديدة لفرزها وتجميعها للتنبؤ بالسلوكيات الشخصية والمُجتمعية قبل حدوثها. وبينما كانت تلك النفايات تسمى «الفائض السلوكي» أصبحت تُستغل اليوم لإنشاء ملفات تعريفة مُفصلة وشخصية لكل فرد.
كل ذلك ولا خيار أمام الناس في وسائل التواصل سوى الاستسلام، ومع هذه المخاوف عاد إلى الواجهة اسم الكاتبة الأمريكية «شوشانا زوبوف» صاحبة الكتاب الشهير «عصر رأسمالية المُراقبة» (The Age of Surveillance Capitalism). كانت «زوبوف» قد ذكرت أن كل منشور على فيسبوك أو إنستغرام أو بحث في جوجل أو غيرها من وسائل التواصل ويسمى «فائضاً سلوكياً» تلتقطه الخوارزميات وتجمعه ليصبح تحت سيطرتها ملايين البيانات الشخصية التي تُمكّنها من تَوقع تصرفاتنا ورغباتنا وتأطيرها وفقاً لما يتناسب مع المُعلن. لذلك فإن عمالقة الويب، مثل جوجل وميتا وأمازون ومايكروسوفت، أصبحت «مرتزقة الشخصية»، أي ترتزق على التجربة الشخصية لكل منا بحسب تعبير «زوبوف» نفسها. وتضيف أن هذا الفائض قد يكون علامة استفهام أو وجهاً من وجوه (الإيموجي) ولا يبدو مهماً أبداً، لكن الخوارزميات تعرف أين تجمعها وكيف توظفها في فهم شخصية وميول المُشارك، وهذا ما أصبح اليوم يُصدّر إلى ملفات خاصة تشبه كتيبة «المُراقبة الشخصية»، لتبدأ التنبؤ بالتصرف المستقبلي وكيفية الاستفادة من تغيره أو توجيهه نحو المُنتَج المُخطط له، سواء كان هذا المُنتج تجارياً أو ثقافياً أو سياسياً.
هكذا تُدار العجلة لصالح رأسمالية عمالقة التكنولوجيا لمُراقبة الناس والتجسس على أفكارهم المستقبلية. سألت «زوبوف» عن كيفية استعادة البيانات، أي كيف يمكن للفرد أن يستعيد بياناته؟ ووجدت أن السبيل الوحيد هو بالعودة إلى الشركات نفسها وطلب البيانات منها. ولكنهم في هذه الحالة قد يقدمون بيانات سبق أن قدمت لهم بالفعل، وهي البيانات الأصلية لا النفايات التي تبقى سرية.
في كتاب «عصر رأسمالية المُراقبة» تحدثت الكاتبة عن «رأسمالية المُراقبة» كشكل جديد من أشكال الرأسمالية التي تُحقق الربح من البيانات الشخصية المجموعة من المُراقبة عبر الإنترنت. تقول الكاتبة:
إن رأسمالية المُراقبة تتعامل مع التجربة الإنسانية بكونها «مادة خام» يجب ترجمتها إلى بيانات سلوكية. تماماً مثلما وضعت الرأسمالية الصناعية يدها على الطبيعة، أو كما وضع مجتمع الاستهلاك بعد الحرب العالمية الثانية يده على رغبات الأفراد. تضع اليوم هذه الشركات يدها على الوقت الضائع للمستخدمين على منصات التواصل الذي أصبح من ذهب بالنسبة لها. وإذا كانت «رأسمالية المُراقبة» تختلف في كثير من النواحي عن تاريخ رأسمالية السوق، فهي تبقى أحد الجوانب الرئيسية التي تحاكي نمط رأسمالية السوق، إذ أدرك المؤرخون أن الرأسمالية تتطور وتأتي بالجديد من خارج السوق لتحويله إلى سلع للبيع والشراء. ومن هنا تقول: «مثلما سلّع الرأسماليون في البداية الأشجار، ثم سلّعوا العمل، الآن يسلّعون الحياة الفردية والخاصة».

وهي تُحذّر أن هذا الشكل من الرأسمالية يمكنه القضاء على أثمن ما تم الاحتفاظ به في الطبيعة البشرية، ورغم أن الكتاب صدر عام 2019، إلا أنه يتطابق مع المخاوف الجديدة من «نفايات البيانات» التي باتت تؤرق العلماء. لقد تمادت هذه الشركات فيما يسمى «الانقلاب المعرفي» بعد أن وضعت يدها على «المعرفة» وسيطرت عليها، وتمكنت اليوم من التنبؤ بمستقبلها. ومع كل تطور جديد في فن مُراقبة الفرد والمجتمع نسأل: إلى أين نسير ونحن محكمون كبشر بفطرية التواصل والحاكمون في وسائل التواصل يتحكمون بنا؟

«الانقلاب المعرفي» هو تحكم هذه الشركات بالمعلومات وتأكيد حقوق ملكيتها والتصرف في توجه سلوكيات الفرد والمجتمع كما يحلو لمصالحها، كنا في مَطالب حماية البيانات الشخصية التي نعرفها، لنكتشف أن للبيانات نفايات تخطت كل الحدود إلى، التنبؤات المستقبلية، وتعرفها قبل أن نعرفها.

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد