شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات سياسية كبرى خلال العقود الأخيرة، وكان من أبرزها انهيار حزب البعث في كل من العراق وسوريا، وهو الحزب الذي حكم البلدين لعقود طويلة بقبضة حديدية وحروب كارثية اكتوت بها شعوب البلدين وشعوب المنطقة وخاصة كل من لبنان وإيران والكويت، ناهيك عن الضحايا الذين فاقت أعدادهم الملايين بين قتيل وجريح ومعتقل ومهجر، وأدت تلك الحروب إلى سقوط نظاميهما شر سقوط بعد تدمير شبه كلي للبلدين.
وبعيداً عن الخوض في تفاصيل ما جرى، فقد أعقب سقوط حزب البعث وهيكل نظامه بروز أحزاب الإسلام السياسي، حيث سيطرت الأحزاب الشيعية في العراق، بينما تصاعد نفوذ الفصائل الإسلامية السنية في سوريا، خصوصًا بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، ويرجع السبب في ذلك بتقديري إلى الإحباط الكبير الذي أصاب القوميين في البلدين، وما سببه حكمهما من تطرف وصل إلى حد العنصرية التي استعدت مكونات العراق وسوريا وأدت إلى احتراب كارثي في العراق راح ضحيته مئات الآلاف من المدنيين الذين إما قتلوا أو تم تهجيرهم وتعريب مناطقهم في البلدين.
أولًا: انهيار حزب البعث في العراق
حزب البعث في العراق قبل السقوط
كان حزب البعث العربي الاشتراكي القوة السياسية المهيمنة في العراق منذ انقلاب 1968 الذي أوصل أحمد حسن البكر إلى السلطة، قبل أن يحكم صدام حسين قبضته على البلاد منذ 1979، وقد اعتمد الحزب على الشمولية المفرطة والقمع السياسي الشديد، والتعبئة الأيديولوجية، وعلى تحالفات داخلية وخارجية مثيرة جداً هدفها الأساسي الحفاظ على سلطته المطلقة.
الأسباب التي أدت إلى انهيار حزب البعث في العراق:
1. الحرب في كوردستان منذ آذار (مارس) 1974 والتي تسببت في كوارث اجتماعية وبيئية.
2. الحروب المدمرة: خاض العراق حربًا طويلة مع إيران (1980-1988)، تسببت في إنهاك البلاد اقتصاديًا وعسكريًا.
3. غزو الكويت وعواقبه: أدى غزو العراق للكويت عام 1990 إلى فرض عقوبات دولية قاسية، مما زاد من معاناة الشعب العراقي وأضعف النظام.
4. الغزو الأميركي 2003: كان الاجتياح الأميركي للعراق في عام 2003 هو الضربة القاضية لحكم البعث، حيث تم اجتثاث الحزب رسميًا بقرار من الحاكم الأمريكي بول بريمر.
ما بعد سقوط البعث في العراق: صعود الأحزاب الشيعية
بعد سقوط نظام صدام حسين، شهد العراق تحولات جذرية في المشهد السياسي، حيث أفسح انهيار حزب البعث المجال لصعود الأحزاب الشيعية التي كانت تعاني من القمع خلال حكم البعث.
ومن أهم العوامل التي ساعدت هذه الأحزاب على السيطرة على المشهد السياسي:
1. انحسار المد القومي والتقدمي اللذان اصيبا بيأس واحباط نتيجة تداعيات ومخرجات حكم البعث واخطائه القاتلة.
2. الدعم الإيراني: استفادت الأحزاب الشيعية من الدعم الإيراني القوي، سواء على المستوى السياسي أو العسكري.
3. إعادة بناء النظام السياسي على أسس طائفية تحاصصية أسهمت فيها السياسات الأمريكية في العراق والتي عززت هذا التوجه، مما منح الأحزاب الشيعية اليد العليا.
4. إضعاف السنة والبعثيين: أدى اجتثاث البعث وتفكيك الجيش العراقي إلى إضعاف القوى السنية، مما سمح للأحزاب الشيعية بتعزيز سيطرتها.
5. ظهور تنظيمات متطرفة سنية كرد فعل لتهميش السنة مثل القاعدة ومن بعدها داعش مما عزز نفوذ الأحزاب الشيعية التي قدمت نفسها كمدافع ضد الإرهاب.
ثانيًا: انهيار حزب البعث في سوريا
حزب البعث في سوريا قبل الأزمة
حكم حزب البعث سوريا منذ انقلاب 1963، وتحول إلى نظام شمولي تحت حكم حافظ الأسد، ثم ابنه بشار الأسد الذي حافظ على السلطة عبر الأجهزة الأمنية والقمع الشديد لأيّ معارضة، ورغم القمع المطبق والقتل الجماعي لكل من عارضه، إلا أنَّ أسباباً مهمة أدت إلى تراجعه وضعفه بل وانكفائه في العاصمة دمشق والساحل فقط، ومن هذه الأسباب:
1. الثورة السورية في 2011 وانطلاق الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد، كانت التحدي الأكبر الذي واجه حزب البعث منذ عقود.
2. القمع المفرط: وبدلاً من تقديم إصلاحات، لجأ النظام إلى القمع الوحشي، مما دفع المعارضة إلى التسلح.
3. انقسام الجيش: انشق عدد كبير من الضباط والجنود، مما أضعف سيطرة الدولة وأدى إلى ظهور جماعات مسلحة مناهضة للنظام.
صعود الإسلام السياسي السني في سوريا
مع تصاعد النزاع المسلح، برزت الأحزاب والفصائل الإسلامية السنية كقوى فاعلة على الأرض، وكان أبرزها:
1. الإخوان المسلمون: رغم ضعفهم مقارنة بالجماعات الجهادية، لعبوا دورًا في المعارضة السياسية.
2. جبهة النصرة (القاعدة في سوريا): تحولت إلى قوة رئيسية في الصراع المسلح.
3. تنظيم داعش: استغل الفوضى وأعلن "الخلافة" في مناطق واسعة من سوريا والعراق.
4. فصائل إسلامية معتدلة: مثل "أحرار الشام"، التي كانت تحاول تقديم نموذج إسلامي سياسي غير متطرف.
لماذا صعد الإسلام السياسي السني في سوريا؟
1. غياب بدائل قوية: كانت الأحزاب القومية والليبرالية ضعيفة ومشتتة، مما ترك فراغًا ملأته الجماعات الإسلامية.
2. الدعم الخارجي: حصلت بعض الفصائل الإسلامية على دعم من دول عربية وإسلامية.
3. الطابع الطائفي للصراع: تحول الصراع في سوريا إلى حرب طائفية بين السنة والشيعة، مما عزز من قوة الجماعات الإسلامية السنية.
وأخيراً كيف تغيرت المنطقة بعد انهيار البعث؟
أدى انهيار حزب البعث في العراق وسوريا إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في البلدين، حيث حلت محله أنظمة وقوى تعتمد على الهويات الطائفية أكثر من الأيديولوجيات القومية.
في العراق، سيطرت الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، بينما في سوريا، تحول الصراع إلى مواجهة بين نظام بعثي مدعوم من إيران وحزب الله، ومعارضة يغلب عليها الطابع الإسلامي السني.
لا يزال أثر انهيار حزب البعث مستمرًا حتى اليوم، حيث تعاني المنطقة من صراعات طائفية، وتدخلات خارجية، وفشل في بناء أنظمة سياسية مستقرة، مما يجعل مستقبل العراق وسوريا معلقًا بين استمرار الفوضى أو إيجاد حلول سياسية تعيد التوازن إلى المشهد السياسي.