: آخر تحديث
هاشتاك الناس

اليوم التالي لغزة

64
64
61

غزة منطقة صغيرة بحجمها، لكنها كبيرة بحجم مشاكلها ومدى عمقها النضالي، وزاخرة بتجاربها المريرة وبيئتها الحياتية القاسية. إنها مدينة "استشهاد" بالمعنى المقاوم؛ فيها يشتعل الحس الديني بثقافة الجهاد، وينمو إحساس الإنسان الواثق بالفرج القريب، وتزداد المقاومة شراسة يوماً فيوماً، رغم ظروف الحروب والنكبات والمظالم اليومية.

غزة تحمل يأس البشر المتتابع؛ لكنه يأس إيجابي لشحن الطاقات الإيجابية بجدوى مقاومة النكبات وظلم الاحتلال وكوارثه. غير أنَّ هذا اليأس إذا وصل إلى ذروته، يتحول إلى استفاقة لأهله، ويتحول إلى نور يشق سراديب العتمة، للتحرر من أمل مزيف زُرع في العقول بفعل فاعل!

إنَّ اليأس في غزة قد دخل مرحلة التجريب؛ كتجربة في التفكير ليُضاهي المنهجيات، فهو إعادة تفكير بمعنى الأمل. إنه الانسجام مع النفس والقضية. والفارق بين الشخص المُحبط والشخص اليائس كبير: الأول، قاعد يستسلم بعبثية، والثاني، ناهض للتغيير بمنطق الإرادة والتحدي. وهو لم يخب ولم تنطفئ شعلته؛ لأنه كان يدرك أنَّ الأمل كان كاذبًا، يسير على عكازات المصالح والتضليل والتمويه والمكابرة السريعة.

لقد اكتشف أهل غزة أنَّ قضيتهم كانت تغط في وحل ثقافة اليأس الممنهج، وحروب غير حكيمة، وعبثية وانقسامات، وفتاوي سياسية ودينية متضاربة، تنتصر للفرد والحزب، وتُهمِّش القضية. فخاض معارك النفس، واستبصر الحقيقة من تجارب الزمن والمخيمات، وتجرَّع ويلات النكبات والتهجير والقتل والاقتلاع، وظلم ذوي القربى، فاكتشف بروتين المقاومة والصلابة النفسية التي كانت عنوانًا لشخصيته القوية التي لا تُقهر.

لم نر شعباً في هذا الكون يعيش المحن والنوازل، والإبادة والقتل والتشريد مثل أهل غزة. صلابة بوجه الابتلاءات وفقد الأحباب وهدم البيوت، ومعها "الحمد الله"، كأنه يعرف قدره إيمانه وقوته، فلا يقهر ولا يقلق، ولا تزيده قوة الابتلاء إلا قوة ثبات، كالمعدن الأصيل لا يزيده العرض على النار إلا لمعاناً وبريقاً.

وكشفت الدراسات العلمية للشخصية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال بأنها شخصية مرنة نفسيًّا، وصامدة للبقاء على قيد الحياة، رغم عيون الموت التي تترصدها من كل الجهات، في سياق الاحتلال وسياسة الاقتلاع والتذويب. شخصية تمتلك القوة الروحانية في النفوس كطاقة إيجابية، ولها ترابط وعلاقات داعمة بين الأسر والجيران التي تمنحهم الشعور الجماعي بالتعافي المعنوي، وتحمّل الظلم الفادح، والانتهاكات ومقاومتها.

الكل أخطأ في الحسابات والجبر وقوانين الفيزياء وفهم التاريخ، وفهم سيكولوجية الفلسطيني الذي عاش دهراً مع الظلم والذل والجوع. لقد أخطأت إسرائيل في هجماتها الوحشية على المدن والبشر، وهي لم تفعل ذلك إلا بالدافع المزعوم، ألا وهو عقدة التفوق والاستعلاء و"شعب الله المختار"؛ أيضًا حيث يقبع في الذاكرة اليهودية تاريخٌ طويلٌ من الشعور بالاضطهاد النازي وأحاديث الشتات. ولم تعرف بأن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه.

غزة وبطولات أهلها، رفعت الغطاء عن وهم التفوق الإسرائيلي، وأثارت الرعب بين المجتمع الإسرائيلي، خوفًا من تحقيق لعنة نبوءة العقد الثامن، تلك التي تؤكد زوال ما يُسمى بالدولة العبرية؛ حيث الاستشعار بالهزيمة والزوال.

هدف إسرائيل، من خلال تحليل مضمون الخطاب الإسرائيلي، هو التطهير العرقي في الضفة الغربية، وإجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم، أو محاولة ضم مدينة غزة وشمالها بالكامل إلى إسرائيل، والمطالبة بها كمنطقة أمنية. والقضاء على فكرة الاستقلال والحرية الفلسطينية، مع تعميق ثقافة "حق الجيش والشرطة والمستوطن في قتل الفلسطينيين"، وهذا يعني أن تكون لها سيطرة عسكرية بدون شعب. لكن الواقع يقول إن نتنياهو لا يستطيع ذلك، وقد جربها سابقًا ولم ينجح، وذلك بسبب صحوة المقاومة وإرادة التحدي؛ بل إن المقاومة حطمت فكرتهم المزعومة بأن "نتنياهو سيد الأمن"!

أمَّا العرب، فقد أخطأوا مراتٍ كثيرة، وأضاعوا فرصًا حقيقية لاستثمار حل القضية الفلسطينية منذ الستينيات من القرن الماضي؛ بسبب العاطفة والحماسة، وعدم النضج السياسي، وطوباوية بعض الحكام، خاصة دعوة أبو رقيبة عام 1965 باتباع سياسة الخطوة خطوة أو سياسة "خذ وطالب"، بدل سياسة "كل شيء أو لا شيء"، مثلما فعلها في تجربته الناجحة مع المستعمر الفرنسي. ومنذ ذلك التاريخ، تقلَّصت أراضٍ واحتُلت مُدن، وبقيت بقعة صغيرة للفلسطينيين يتفاوضون عليها في اتفاقيات هزيلة ملغومة بأحبار الخديعة والتمويه.

أصبحت القضية الفلسطينية تجارة رابحة للبلدان والأحزاب؛ الكل يصرخ "يا فلسطين"، لكنَّها الخاسرة دوماً، فلا يحصل منهم إلا على بضعة كيلوات من الطحين، وعلى عدد من قناني الزيت؛ لتتحول من قضية إلى تجارة يتخاصم عليها "أحباب فلسطين". لكن المفارقة المُرة أن الجميع كسروا الجرة على رؤوس الفلسطينيين!

صارت ورقة سياسية لتجار السياسة، فلقد دخلها الغريب ليلعب بها لتحقيق مصالحه السياسية، وتاجر بها أهل الدار لتكون ورقة رابحة لجمع المال، وبناء الفيلات الفارهة، ليجعلوا الشعب المنكوب مشردًّا بلا مأوى، وصارت العائلات الفلسطينية مشغولة بنفسها بين أنقاض الديار، والبحث عن أولادها بدلاً من الاكتفاء بالتشبث بالأرض.

قضية فلسطين غابت عنها الحكمة منذ أن بدأت النكبة؛ فخسرت أرضها وشبابها، وخذلتهم الدول و"ثوار" فلسطين، ولم تجن منهم سوى الصراخ والشعارات البراقة. صارت كرة يلعب بها فرق تجار المبادئ الكاذبة، وتتقاذفها الأحزاب المخادعة، وينتهبها العملاء المزدوجون، ويرفع شعارها أصحاب الرايات الدينية المنافقة.

تركوا فلسطين "الرمز" في مهب الكوارث والنكبات والأحزان؛ لكن الفلسطيني ظل هو الأصل والقضية. ظل هو الحكيم الوحيد الصابر على قنابل الاحتلال وويلاته، بذاكرةٍ قوية غير مثقوبة، وكأنه يُذكرنا بحنظلة ناجي العلي؛ الثائر الذي لخَّص القضية برفضه الذل والمهانة، وإصراره على العيش "معيش هوية ولا ناوي أتجنس".

وبالمختصر المفيد، غزة في قادم الأيام: قلق الصدمة، والخوف من المستقبل، وعودة التهجير، لكنها بالتأكيد هي الطوفان الكبير؛ نهاية مستقبل نتنياهو السياسي واليمين المتطرف، ونهاية مَن يتاجر بالقضية في السر والعلن!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف