إيلاف من بيروت: تغني الدكتورة ريتا عوض المكتبة العربيّة بعمل نقدي متميز في اتّساعه وعمقه بعنوان "الشعر والنبوّة: أبو الطيّب المتنبّئ بالشعر"، يتناول شاعر العربيّة الأكبر، أبي الطيّب المتنبّي، في 560 صفحة من القطع الكبير، والذي صدر حديثاً عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر ببيروت.
تتناول الكاتبة في ستة فصول وخاتمة، موثّقة ومذيّلة بالهوامش، ما تصفه بالعلاقة الملتبسة بين الشعر والقول النبويّ، وتحلّل سورة الشعراء وما يُعرف بآيات التحدّي في القرآن، وتناقش المفهوم السائد للإعجاز بوصفه علامة النبوّة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة. وتعود إلى ما نُقل من تفسير أبي الطيب لقبَه، بأنّه لُقِّب بالمتنبّي لأنّه تنبّأ بالشعر، وتقول إنّه في حين ظلّ السؤال الذي شغل مَن كَتب عن لقب المتنبّي، هل ادّعى أبو الطيّب النبوّة ولذا لُقّب بالمتنبّي، فإنّ التفسير للقب "المتنبّي" الذي يجمع بين قولين: شعريّ ونبويّ، لم يجد ما يستحقّ من عناية دارسي المتنبّي وشعره، قدماء ومُحدَثين ومعاصرين. إنّ الجمع بين الشعر والنبوّة في وصف المتنبّي إبداعَه الشعريّ، وتجلّيات التعبير الفنّي الجامع بين القولين الشعريّ والنبويّ في شعر أبي الطيّب المتنبّي، من القضايا التي تعنى بها هذه الدراسة النقديّة.
تؤكّد الكاتبة إنّ وصف الشعر العظيم بأنّه نبويّ لا يُراد به معادلةُ ذلك الشعر بالنصوص الدينيّة المقدّسة، بل يُقصد به القولُ بأنّ هناك ما هو مشترَك بين القولين الشعريّ والنبويّ. وتطرح في هذا الكتاب عددًا من الأسئلة لمناقشة ما تثيره مسألة العلاقة الملتبِسة بين الشعر والنبوّة من إشكالات وما يحمله الجمع بين القولين الشعريّ والنبويّ من دلالات: ما هو وجه الشبه بين الخطابَين الشعريّ والقرآنيّ رغم الاختلاف الجليّ والكبير بينهما، سواء أكان من حيث الشكل أم المضمون؟ وما الذي جعل قريشًا وغيرها من العرب في زمن الرسول يظنّون ما يسمعون من آيات القرآن شعرًا؟ وما الذي يجمع بين القول الشعريّ العظيم والقول النبويّ، أو ما معنى قولُنا إنّ القولَ الشعريَّ نبويٌّ؟ وما معنى أن يكون الشاعر متنبّئًا بالشعر؟ وكيف يلتقي بالنبوّة الشعرُ المحلِّقُ في أعلى ذُرى الإبداع الفنّي باللغة، بخاصّة شعر المتنبّي الذي وصفه بعض النقّاد العرب القدماء بالإعجاز الذي خصّ به الفقهاءُ كتابَ الإسلام المقدّس؟ وكيف يمكننا اليوم أن نفهم قولَ المتنبّي إنّه تنبّأ بالشعر، وما العوامل الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي جعلت قولًا كهذا ممكنًا ومقبولًا في القرن الرابع الهجريّ الذي يوصف بالعصر الذهبيّ للحضارة العربيّة الإسلاميّة، بخاصّة في البيئة التي نشأ بها المتنبّي بكلٍّ من الكوفة والشام؟ وما الدلالة النقديّة لقولنا إنّ المتنبّي حقّق بشعره النبوّة التي قيل إنّه ادّعاها في مطلع شبابه، فكان الشاعرَ المتنبّئ بالشعر أو كان بمفهوم النقد الأدبيّ الحديث، شاعرًا-نبيًّا؟
رؤيا شعريّة كاشفة
في ضوء هذه الأسئلة تتناول الكاتبة بالتحليل والنقد شعر المتنبّي وتبيّن كيف أبدع الشاعر في رسم صورة فنّية لذاته المتعالية اتّحد فيها الشاعر والنبيّ، وكيف عبّر في لغة شعريّة وُصفت بالإعجاز عن رؤيا شعريّة كاشفة في واقع عصره الاجتماعيّ والسياسيّ وعن وعي حضاريّ وتاريخيّ نادر في زمنه وتأمّل في شؤون الحياة والناس وتفكُّرٍ بأسرار الكون والوجود البشريّ. وترجع بنظرة نقديّة إلى أقدم ما وضعه العلماء من شروح ديوانه، وهي شرح أبي الفتح ابن جنّي: الفَسر وشرح أبي العلاء المعرّي: اللامع العزيزي وشرح أبي الحسن الواحدي، الذي امتاز باعتماد الترتيب الزمنيّ لقصائد الديوان، الذي وضعه المتنبّي نفسُه لديوانه، وتُبرز خصوصيّة هذا الترتيب الذي لم يُسبق المتنبّي بين شعراء العربيّة إليه، وتبيّن دلالاته الثقافيّة والفنّية، وتحلّل شعره في ضوء ما وفّره النقد الأدبيّ الحديث من رؤى وأدوات لم تكن متاحة للناقد أو الشارح في قرون سابقة. وتمهّد لدراستها الشاملة للديوان ببحث مسألة العلاقة الملتبِسة بين الشعر والنبوّة في التراث الثقافي والدينيّ الإنسانيّ عامّة وفي التراث العربيّ خاصّة، وعرضِ أقوال القدماء ورواياتهم حول ادّعاء المتنبّي النبوّة وتحليل تلك الأقوال ونقدها، وما قاله النقّاد وشرّاح ديوانه في شأن ما وصفوه بطريقته المخترَعة في الشعر، وتلقي الضوء على الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة في العصر الذي عاش فيه المتنبّي عامّة، وفي البيئة التي نشأ فيها خاصّة، وهي أوضاع تُبيّن ما كان لها من أثر كبير فيما تطلّع إلى تحقيقه سواء أكان في ادّعائه النبوّة أم فيما وصفته بصورته الشعريّة المبتدَعة أم في شعره ذي الصوت النبويّ، على حدّ تعبيرها.
دراسة رائدة
إنّ هذا الكتاب الذي تعود فيه الكاتبة إلى ما يزيد عن ثمانين مصدرًا من كتب التراث العربيّ، وأكثر من أربعين مرجعًا باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، فضلًا عن كونه دراسة رائدة لم يُسبق إليها في اللغة العربيّة عن العلاقة بين الشعر والنبوّة، يقدّم قراءة نقديّة عميقة للرؤيا الثاقبة والكاشفة والتعبير المجازيّ المبدع في شعر المتنبّي، تُظهر تحقّقَ ما دعته بالتوق النبويّ للشاعر في إبداعه الفنّي، ويشكّل مرجعًا أساسيًّا لا غنى عنه لأيّ دراسة مستقبليّة عن المتنبّي وشعره والأبعاد الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة لزمنه، ويوفّر قراءة ثريّة وممتعة لكلّ مهتمّ بالشعر العربيّ ونقده، كما بالتراث الثقافيّ والإبداعيّ العربيّ بمعناه الواسع.