ربما تنازعت الرِّواية منذ نشأتها التاريخية حزمة من التعريفات النقدية وغيرها بوصفها جنساً أدبياً بفضائها السردي المفتوح. وتأرجح التعَّريف النقدي من التقيد إلى الإطلاق ومن التباين إلى التنوع والمطابقة، إضافة الى عدد من التعريفات النقدية منها والثقافية بما أنها نتاج سردي مستقل. وما اتساع دائرة التصنيف النقدي إلا دلالة على اتساع دائرة تأثيرها على مستوى الإنتاج الأدبي والمعرفي الإنساني؛ فثمة رواية رومانسية، وتاريخية، وواقعية وإلى آخر التصنيفات النقدية. وقد لا يعني الرواية في شيء مهما تعدَّدت وصفاتها التاريخية أو ربطها - نقدياً - بتيارات وموجات فكرية وفلسفية. وإذ لم تكتف الرَّواية بتصنيفها الفني في قائمة أشكال الكتابة والفنون الإنسانية، فقد حاول الكثيرون صبغها بهوية الانتماءات التي اتخذت من جدولة الأشياء ضمن حدود الهويات القومية؛ ثمة رواية إنكليزية وأخرى روسية وهناك رواية إسبانية في مدار التصور الغربي بنزعته التراتبية والريادية، ومن ثّم تركت لكل رواية يكبتها صاحبها بحسب المكان الذي ينتمي إليه. ثمة تساؤل عن مدى فعالية التجنيس السياسي للأدب؟ ولا يكفي بالطبع تساؤل فليسوف الوجودية جان بول سارتر: ما الأدب؟ ولو أن تساؤله يخدم مذهبه (الوجودي) أكثر من الأدب وإن كان هو الروائي أيضاً.
حزمة من الاصطلاحات
من أبرز ما أحاط بالرواية مفهوم الأيدولوجيا Idéologie ضمن حزمة من الاصطلاحات التي تعود في جذورها إلى معارف وعلوم مجاورة، أو تيارات تزحم الفضاء الثقافي العام. وقد بقيت هذه التوصيفات بالرغم من اختفائها في سياقاتها التاريخية المنتجة لها، وبقيت ملازمة للرواية في الخطاب المتداول النقدي العام. والايدولوجيا مصطلح أو مفهوم في الخطاب السياسي والنقدي وفلسفة الأفكار والعلوم لم يخل من ظلالها حيثما طبقت معاييره النقدية. ويكاد النقد هو ما يتمثل البعد الأيدولوجيي في التنميط والتطبيق المنهجي في الاستناد على خلفية ايدولوجيا تحكم بنيته، وهو خطاب دائماً ما ظلَّ مصدراً وحكماً للقراءة الأيدولوجية بعكس الرواية. وجود الايدولوجيا لا يعني – بالضرورة - رواية ايدولوجية موازية، فالأيدولوجيات أخفقت في انتاج وصياغة تصورات لاستيعاب التجربة الإنسانية المعقدة لاقتصارها على منهج آحادي لا يأخذ برأي الآخر وتقصر الحوار ضمن نسقها المغلق. وعلى اتِّساع التعريف المفاهيمي والمعجمي لمصطلح "الايدولوجيا"، تبقى مجموع نسقيِّة الأفكار والمحددات المفاهيمية أبرز ما يعرفها. ومع صلابة البنية المفاهيمية للرواية التي استقرت في سياقها السردي، بقيت سيولة الايدولوجيا وتداخلها إلى جانب رؤي فلسفية وتيارات فكرية حاولت تفسيرها اتجاهات سياسية بمختلف التوجهات العقائدية. فالبعد التاريخي للأيدولوجيا يضعها في درجة بتعميمها أقل دقة من العلم ولا يكون القياس عليها إلا على محض تعسف.
ثمة فروق جوهرية بين العلم والايدولوجيا، فالعلم كما يقول مؤرخ فلسفة العلوم توماس كون لا ينزع إلى مثالية متصورة، وبخلاف الأيدولوجيا، لا تخلو من غموض ترتسم عليها رؤية طوباوية لا تخفي منطلقاتها المتجلية في الدين والسياسية والمجتمع والمدارس الفكرية المختلفة. إنها المحاولة المستنفدة لطرح رؤية كلية للعالم من خلال أدوات من بينها الأدب وليس حصراً عليه. قد تُّولِّد الرواية عن تناص مع مقولات ايدولوجية تكونها ما يعرف بالخطابات السائدة، وقد ساد فيما بعد، أي إلى ماذا أحالت إليه الايدولوجيا في القراءات النقدية أو التحليلات، والتي تعنى مقاربة النص الادبي (الرواية، والنص).
هوية الخطاب السردي
تحمل الرواية هويتها وتشكل ملامح شخصيتها داخل هذه الهوية (هوية الخطاب السردي)، هي بنية لها خاصيتها structurality من جملة معطيات الخطاب الروائي، فالسرد تكوين وتوحيد لعناصر وموجودات متشكلة من بنى تخييلية كما في الخطاب الروائي أو أفكار قائمة بالصراع كالأيدولوجيات. فالهوية (الشخصية) في الخطاب السردي (الرواية) تشكل أحد التصورات الأنطولوجية متمظهرة سردياً ومعزّزة وجودها المتحقق بأدوات تقاوم في استمرار اختلال نسقها وبنية هويتها. فالعالم في النص (الخطاب السردي) المندرج ضمن صراع الوجود محققاً لهويته في مقابل هويات أخرى. وهي تجسيد تبزغ أزمته من واقعة المستحضرة من مجموع تفاعلات تلقي بنتائجها على الهوية السردية وتشير إلى نقطة اختلاف (صدام) الهوية في مواجهة هوية الآخر، لأن الهوية السردية ليست وسيطاً يحدُّ أو يجرد الهوية الذاتية للشخصيات الروائية، ولكن محاولة لتثبيت تلك الصفات مطابقة لتلك الهوية مع النظم تسود بنية الخطاب الروائي.
فالمسافة بين الايدولوجيا كنسقٍ متصلِّب برؤية أحادية، وبين الرواية النص المتجدَّد في تفاعلاته السردية، تجدد من أدواتها اللغوية وعوالمها التي تنبثق عن احداث في تجدد متسمر. يستتبع هذا التجدد في خصائص الرواية ومعالجاتها المتطورة عن تقنياتها السردية. ومن ناحية أخرى، تهمين الايدولوجيا بخطابها الشمولي، بينما تستند الرواية إلى فضاء مفتوح في أفق التجربة الإنسانية المستمرة. أحدث هذا الجدل على المستوى النقدي التنازع بين نسقين أيديولوجي مستقر، وآخر ثقافي تسهم في انتاجه عوامل تتأسس على لا تتقَّوم – بالضرورة- بالأساس النظري.
فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب أوصل الرواية العربية إلى العالمية
شروط الأيدولوجيا
لا بد من التشديد في القول إنَّ الرواية لا تخضع لشروط الأيدولوجيا، ولا تندرج ضمن مفاهيمها النسقية ولا يحد من تكوينها كرواية حضور البعد الأيدولوجي، وإن لم تخل من التمثيل الرمزي للأيدولوجيا وانحيازاتها غير المباشرة. فمتى تكون الرواية رواية "ايدولوجيا"؟ وكيف للأيدلوجيا أن تحتمل تفاعلات الرواية السردية، وتنفلت بالتالي من صيغتها المجردة في تكوين رؤية مغايرة تعبر في شكل آخر دون أن تتناقض مُقوِّضَة لأساسها البنيوي النسقي وتتحول إلى نصٍ سردي مفتوح على تجربة إبداعية كتابية؟ وكما يقول الناقد السعودي سعد البازعي إن الرواية الايدولوجية هي الرواية بوصفها جنساً من الكتابة السردية التي تسعى إلى استيعاب قدر واسع من الشأن الإنساني، بمتغيراته وتعدد شخوصه وأحداثه، وما يستتبع ذلك عادة من تعقيد وتشابك، حرية بأن تنحاز باتجاه أي من ذينك الاتجاهين فتكون أقرب إما إلى الرؤية من ناحية أو إلى الأدلجة، من ناحية أخرى. ويتضَّح من هذا التعريف النقدي بإحاطته المنهجية أن ثمة رواية تؤدلجها الرؤى المسبقة. فالأيدولوجيا تقع ضمن تحيِّزات عدة تؤثر على العملية السردية Narratology وليس بالضرورة أن تأخذ صفة الايدولوجيا من حيث التعريف النقدي. فالرواية ليست جزءاً من بينة الأيدلوجيا، وإن تسربت إليها – قصداً - بعض الروايات لا تعبر عن الايدولوجيا، بل أصبحت خطاباً ايدولوجياً صارخاً، وارتبطت تاريخياً بالمراحل الايدولوجية التي سادت تاريخ العالم الحديث. إن الإشكالية التي تقاربها الرؤية النقدية لموقع الايدولوجيا تكمن في توظيف الرواية بتحميلها وصبغها برؤية ايدولوجية تخدم أهدافاً محددة، وهو ما يتعارض مع الفعل الإبداعي، إذ إن الرؤية الروائية لا تنطلق من مقولات مسبقة كالتي تؤسس لها الايدولوجيا في عمومياتها. كما يقول الناقد الأكاديمي تيري ايغلتون لابد من فهم العلاقة الوثيقة بين النقد والايدولوجيا، فالنقد كما يرى لا يمكنه أخذ نص الصراع الأيديولوجي لتحليله فنياً.
الرواية العربية كان لها حظها من التصنيف على الصبغة السياسية منذ أن عرفت الكتابة العربية الرواية بشكلها ونمطها المستجد على مدونة السرد العربي. وعلى سبيل التقليد أو المجاراة عرفت الرواية العربية أنماطاً مختلفة من الرواية الواقعية والرومانسية والوجودية وغيرها من تيارات غير محددة الملامح بشروط الكتابة الروائية الممارسة أو الإشارات النقدية. ولكن الأيدولوجيا أعمَّ شمولاً من التيارات التي تعتبر فرعاً أو تمثلاً أكثر منها محتوىً جوهرياً.
الأيدولوجيا والرواية العربية
فالرواية العربية على ما عايشته من مرحلة الفوران الايدولوجي في خمسينيات وستينات القرن الماضي تأثرت بما أثارته موجات تيارات أدبية تسيِّدت المناخ المعرفي والأدبي كالواقعية الاشتراكية بظلالها الايدولوجية الكثيفة. الايدولوجيا العربية إن وجدت في كتابات عبد الله العروي قبل ما يزيد على النصف قرن في "الايدولوجيا العربية المعاصرة" وهي كتابات لا تقترب من الرواية بمعناها المفهوم الا بقراءة اللغة والتراث في التصورات النمطية للرواية الايدولوجية نفسها. والايدولوجيا السردية - إن جاز الوصف - تنطلق من اتجاهين: الرواية والنقد، والنقد يمثل الخطاب الذي تحدد من خلال أدواته واستنتاجاته التحليلية هوية الرواية باختلاف مقاييس التصنيف النقدي والذائقة والاستيعاب المعرفي للناقد؛ والرواية بما تعكس من مواقف تتقوم بما بواقع الأحداث وفي مجال أوسع تحيطه به خيال وتأملات وشخصيات يحتويها زمن يستعيدها أو ينتجها الروائي.
يلزم البحث في أفق الأيدولوجيا قراءة الرواية والروايات التي حاولت التعبير ايدولوجياً من منظور نقدي تاريخي ككتابات تأثرت بينيتها السردية بالنمط الأيديولوجي السائد في تعدد الخطابات الأيدولوجية من رؤى اجتماعية داخل علاقات المجتمع وطبقاته، أو مفاهيم ذات نزعة ايدولوجيا سايرت فيها الرواية/الروائيون لإنتاج أعمال سردية توفيقية ما بين الاقتراب والابتعاد من الخطاب الأيديولوجي. وتفضي القراءة الفاحصة للرواية من منظور أيديولوجي إلى الأدب المقارن في جزئية تنفصل عن منهج القراءة المقارنة كما في تحديد.
من بواكير الروايات العربية للكاتبة اللبنانية الراحلة حديثاً ليلى بعلبكي
نقاد ما بعد الاستعمار
منذ نشأتها في محيطها البرجوازي التاريخي لم تكن الرواية الا انعكاساً لحزمة أفكار وقيم تراهن على اتجاهات ايدولوجية حتى وأن كانت تعبيراً غير مباشر لتلك القيم. ووفقاً لتاريخ الرواية النقدي، فإنها لم تسلم من تدخل الرؤى والشروط الايدولوجية. ويختبر هذا الاتجاه في الرواية الغربية الحديثة وكيف أنها حملت معها المركزية الغربية (ايدولوجياً) للآخر في عدد من الأعمال الرواية مما دفع النقاد – نقاد ما بعد الاستعمار - إلى عدها روايات حققت التصور الأكمل للمركزية الغربية في المراحل المبكرة للرواية الغربية كرواية دانيال ديفو روبنسون كروزو، وقلب الظلام لجوزيف كونراد وغيرها فيما تسلسل بعد من روايات اصحبت محط دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار في العلاقة بين الغرب والآخر.
منظرو الرواية من المنظرين والنقاد الكلاسيكيين من أمثال جورج لوكاتش والروسي مخائيل باختين وريموند وليامز، فقد نظروا أيضا للرواية من زوايا ايدولوجية بحسب السياق التاريخي حيث سادت المدارس النقدية تحت مظلة شبح الأيدولوجيات الكبرى Grand Ideologies في مقابل السرديات الكبرى Grand Narratives أو كما يشير الناقد صلاح فضل بأن تفسير هذه العناصر بتحديد جذورها الشخصية والموضوعية؛ أي تقويم الوسائل الأسلوبية باستحضار جذورها الذاتية في شخصية الكاتب من ناحية والشبكة الدلالية الموظفة لها من ناحية أخرى. ومن هنا فإن هذا التقدير الشامل لا يمكن القيام به إلا في مرحلة أدبية معينة أو في نطاق جنس أدبي خاص، محوط بوجهة موضوعية "أيدولوجية" تضفي على هذه المكونات الجمالية طابعها المتماسك.
ما بعد الأيدولوجيا
وبما أن الأيدولوجيا لم تعد جاذبيتها في الدراسات النقدية والسياق الفكري العالمي العام لعوامل تاريخية وأخرى ثقافية سياسية لها نتائجها الحتمية على مسار الأفكار. فقد تخطت دراسات الحقول الثقافية والنقد الثقافي لما بعد الحداثة. وبالتالي أصبحت الرواية في موجتها الجديدة – ما بعد الايدولوجيا - مناهضة للأيدولوجيا نفسها. ولأنها، أي الايدولوجيا تعلو على الواقع بمهيمنتها الناموسية، وصارعت الرواية في التخلص من قيِّودها ومؤثراتها الخارجية ومنها بطبيعية الحال (الايدولوجيا). ومع ذلك تبقى ايدولوجيا الرواية تاريخ الرواية وجزء من مكونات مراحلها التطورية دون أن تكون تحدَّ من مكوناتها الجمالية؛ فقد توقفت الايدولوجيا بمفهومها التاريخي واستمرت الرواية في تجديد فضاءاتها السردية.