: آخر تحديث

خبات عارف.. فنطازيا العبث والبحث في التضادات

68
67
50
مواضيع ذات صلة

لم أشعر بثقل ووطأة الحياة وعبثيتها القاتلة التي تأخذ الانسان کريشة في مهب الريح وتلقي به حيثما شاءت أقدار تغدو أحيانا خرساء من فرط التضاد والتناقض الحاد في قوانين الوجود والعدم، کما شعرت بها في مقطع شعري قصير للشاعر الکردي المغترب خبات عارف وهو يقول في قصيدة"ترك الذات":

وأنا في ظلمة الوجود والعدم،

أبحث عن لا أحد،

ظلام في الوجود وظلام في العدم، وکأن خبات يصرخ بأن الاصالة للظلام وهو مهد الانسان ومهجعه الاساسي وهذه هي الحقيقة التي يجب الرکون إليها، لکن لا يقف خبات في هذا التصوير المفعم بالتشاٶم بل إنه يقودنا بفانوس وجده المتسامي بين المسافات وبين الازمة والعوالم وإنما يواجهنا بالمزيد من التشاٶم والمزيد من الجزع القاتل حين يعترف: أبحث عن لا أحد!

ولا أدري لماذا أحسست فجأة بأن“لا أحد" شاعرنا قد جعلني أتصوره کما لو إنه غودو صاموئيل بيکيت، ولا سيما وإن خبات في هذه القصيدة تحديدا ينقل صورا ومشاهد للمتضادات المتداعية على بعضها برقة بالغة وهو يريد أن يرينا عبثية ولا أدرية الحياة وجنوحها نحو الضبابية حتى في لحظات الشروق والضياء فهو يقول:

واحد يمسك بقامته حزني

وواحد يفسح مکانا لروحي المتنهدة في خضم خريف الضحك،

واحد يأخذني الى لحظات ماقبل الولادة

ويضع يدي في يد ملائکة الموت.

هذا اللوحات الفنطازية الرائعة التي يرسمها لنا خبات بأنامله بدقة متناهية ولاسيما عندما تغدو روحه المتنهدة تجد بيد أحدهم مجالا لها في خضم خريف الضحك، إذ أن إدافة الخريف الذي هو رمز لذبول الحياة وسيرها نحو الفناء بالضحك الذي هو ذروة التعبير عن الفرح والسعادة، يعني إنه يسترعي إنتباهنا الى إن أشکال وحالات الحياة في واقع وحقيقة أمرها لاتختلف عن بعضها، وکيف لا وهو يقول أيضا بأن الذي يأخذه الى لحظات ماقبل الولادة ويضع يده في يد ملائکة الموت، فکإنه يقول بأن الانسان يولد ميتا، أو بتعبير أکثر وضوحا أن الوجود محکم عليه بالفناء أو في حالة ترابط جدلي لامناص منه أي إن الوجود لايمکن أن ينفصل عن العدم أو يتعالى عنه، والذي يجب أن لانغفل عنه هنا هو إن "واحد" خبات ليس إلا أنماط وحالات الحياة المتداخلة والمتداعية على بعضها والتي تتداعى عن الظروف والاوضاع غير المائلة للإستقرار والوضوح، والشاعر في جنوحه الفنطازي المفعم ببعد وعمق فلسفي ليس في الامکان إدراکه، يبدو وکأنه يحسم قضية شغلت وتشغل بال الانسان بشأن إنه مسير أم مخير، فيشدد على إنه لاخيار للإنسان!

مرکب التشاٶم والحزن والاحساس بما يجعل الانسان يفقد الطمأنينة والرکون للدعة، يسير بفکر ووجد خبات في عوالم قصائده التي تبحث عن الشئ ونقيضه، وها هو في قصيدة "الايام" فإنه يسعى للإيحاء بتشابه بعاد وقرب حبيبته منه، کما إنه يرى الزمن کخريف للقلق تم وضعه ککابوس على جثمان أحلامه، فهو هنا کم يقول إن لا الزمن ولا الاحلام يمکن أن تغدو شاطئ الخلاص لمرکب تشاٶم الانسان کما نقرأ قصيدته:

بعادك يجعل أمامي مسودا

وقربك لا يترکني کي أفتح عيوني بوجه الوحدة

وأن أدع طائر غوري يحلق.

والايام حجاب أصفر للقلق

تم وضعه على جثمان أحلامي.

الاحساس بوحشة ومعاناة الوحدة والنأي بالذات بعيدا عن الوجه المضئ للحياة ومن ثم الانسلال من إحساس الوحشة والوحدة والمعاناة الى شطآن يتم الرسو فيها الى حين، هو العالم الذي رسمه الشاعر في قصيدة"إينيغما" التي ينقلنا بداية الى عوالم الحزن واليأس والموت والغربة والالم ليصفها بمزج ذاته التي تميل للوحشة والالم بالموضوع والواقع القاسي حينما يقول:

أجعل من الوحدة ذاتي

وأذهب الى مقبرة ولادة أخرى،

وأديف الشکل الحي لرغباتي

برائحة الغربة وعيوني بوجع الابصار

يجعل من الوحدة ذاته وهو هنا وإن ظهر کمازوخي لکنه يريد إکتشاف وإستکناه الوجه المظلم للحياة بجعل ذاته متداخل بها إذ أنه وبعد أن يغرق ذاته في الوحدة  فإنه يذهب الى مقبرة ولادة أخرى، لکنه هنا وکأننا أمام  مقطع مسرحي لمسرحية ملحمية لبرتولد بريخت، إذ يعيدنا فجأة لنصطدم بحقيقة إنه کان في الاصل منطلقا

من الوجه المظلم للحياة، إذ هو أصلا قد أتى من مقبرة ولادة ويريد أن يعلم هل هناك مقبرة ولادة أخرى أکثر وحشة وألما من مقبرته، وهو بهذا يٶکد مرة أخرى على حالة الترابط الجدلية بين الوجود والعدم، وهو عندما يقوم بإدافة الشکل الحي لرغباته برائحة الغربة وعيونه بوجع الابصار، فإنه يريد تقمص العذاب کما في مسرح ستانسلافکي التقليدي لکنه في نفس الوقت وبإلتفاتة بريختية يريدنا أن نعلم بأن هذا المتقمص هو شاعرنا خبات.

ومن الوجه المظلم للحياة ومن خطاب ذو طابع موضوعي ذو مسحة تراجيدية تنضح ألما، ينتقل بنا الشاعر الى الوجه والجانب الوجداني من الحياة، عندما يقول في نفس القصيدة:

ممتلأ بك، خال من نفسي

صوتك يملأ قلبي.

صوتك ملئ بخفقان تلك القلوب

التي من دون لهيب عشقها

لا تشتعل بأي شئ.

عيوني مليئة بلونك

ولونك ملئ بإبصار تلك العيون

التي تمطر کنجوم الصباح في سماء جمالك.

فمي ملئ بفمك

فمك ملئ بماء ورود تلك القبلات

التي تغمر حياتنا بعبق العشق

وموتنا برائحة الجمال.

شکلك ضياء الشمس.

وعندما لايظهر فإنه يظلم جانبا مني

وعندما تظهرين فإن کل وجودي يغدو ضياءا.

قلبك ملئ بصوتي

وصوتك ملئ!

يفقد الشاعر ذاته التي تمتلأ بالحبيبة، وقلبه يمتلأ بصوتها، وأي صوت، صوت ملئ بخفقان تلك القلوب  التي من دون لهيب عشقها لا تشتعل بأي شئ، والذاتية الوجدانية التي تفيض مشاعر جياشة هي ذات عارف في هذا المقطع يقوم بتقديم صور وجدانية خلابة في جمالها ولاسيما عندما يقر بأن عيونه ممتلئة بلون الآخر ولون الآخر ملئ بإبصار تلك العيون التي تمطر کنجوم الصباح وإن فمه ملئ بفمها وفمها ملئ بماء ورود تلك القبلات التي تغمر حياتنا بعبق العشق والموت برائحة الجمال وشکلها کضياء الشمس، ويبدو وکأن الشاعر يعيدنا الى الواقع تماما عندما يقول بأن شکلها عندما لا يظهر فإن جانبا منه يظلم ولکن عندما تظهر فإن کل وجوده يغدو ضياءا.

في قصيدة"إيضاحات حول الليل" التي لفتت نظري کثيرا لکن أکثر ماقد جعلني أهفو إليها بجوانحي وأتسامى معها حينما إستوقفني ذلك المقطع الذي يقول فيه خبات عارف وبإحساس مرهف وهو يخاطب حبيبته:

"تعلمين أجمل شئ يکمن في آهات البشر الملتهبة

تدرين إن الجمال حتى عندما يعانق القمة

لا تعلو قامته عن صدور الناس ويقترن بتنهداتهم

أليست أنفاس هٶلاء الناس، هي التي تضع زهرة قبلة حية بضفائر الليل؟"*

الناس هم من يضعوا الزهرة کقبلة حية بضفائر الليل، شاعرنا هنا ومن خلال عملية سبر غور يهدف فيها للمزاوجة بين الذات والموضوع، يريد أن يٶکد بحالة الارتباط الجدلي بين الطرفين، وإن الذات من دون الموضوع لا يعني شيئا وليس له أية قيمة أو 'أهمية، وقد ذکرني خبات عارف من خلال هذا المقطع الذي إستوقفني دون غيره برائعة أم کلثوم "ياللي کان يشجيك أنيني" للخالد "أحمد رامي" والتي تقول:

"عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك

وتجيب خضوعى منين ولوعتى فى هواك"

عارف يريد هنا أن يقول لاقيمة ولا  أهمية لأي جمال يتم عرضه من دون نظارة، فالعين المبهورة والمتولهة بالجمال المعروض أمامها هي من تحدد قيمة وأهمية ومستوى المعروض ومن دون ذلك فلا، وهو بذلك يريد أن يلفت النظر الى إن المعشوق من دون عاشق لوحة غير متکاملة ولا توحي بأي معنى، وهذه الرٶية يمکن سحبها على معظم الحالات والصور السابقة.

*الترجمة هنا للشاعر أنور قادر محمد وماعداها لکاتب الاسطر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات