: آخر تحديث

حقوق كوردستان بين الدستور والانتخابات العراقية السادسة

3
3
2

لم يكن إعلان الإطار التنسيقي نفسه «الكتلة النيابية الأكبر» مجرد خطوة بروتوكولية، بل كان لحظة تكشف طبيعة المشهد السياسي بعد الانتخابات. فبينما حصد تحالف يقوده رئيس الوزراء الحالي أعلى عدد من المقاعد، وتلاه ائتلافات شيعية وسنية وكردية بأوزان متفاوتة، بدا واضحاً أن الأرقام مهما ارتفعت لا تختصر الطريق إلى تشكيل الحكومة. فالعراق ما زال عالقاً بين مشروعين: من يدعو إلى الأغلبية السياسية، ومن يتمسك بتقليد التوافق الذي جعل الحكومات تُبنى كما تُبنى المنازل على أعمدة مهزوزة.

وفي ثنايا هذا الصراع على هوية الحكومة المقبلة، يقف ملف إقليم كوردستان بوصفه الاختبار الأكثر حساسية. ليس لأنه ملف مالي أو نفطي فقط، بل لأنه جوهر العلاقة الوطنية التي بُني العراق الجديد على أساسها. فالدستور يمنح الإقليم صلاحيات واضحة، من إدارة موارده وتنظيم مؤسساته، إلى حمايته ضمن نظام اتحادي، لكن تطبيق تلك النصوص اصطدم بعقبات عملية وسياسية متكررة.

التحالفات التي تتقدّم نحو تشكيل الحكومة تتعاطى مع المرحلة بروح التنافس الداخلي قبل الخارجي. وهنا يتسلل السؤال الأهم: حين يحين وقت التفاوض مع كوردستان، هل سيُفتح الدستور أولاً أم تُفتح دفاتر الحسابات السياسية؟

ثلاثة بنود دستورية بارزة بقيت عملياً حبراً على ورق وتؤثّر مباشرة في وضع الإقليم:

1. المادّة 140 (تسوية وضع المناطق المتنازع عليها عبر التطبيع، الإحصاء، والاستفتاء المصيري في محافظات مثل كركوك) — المادّة فرضت مهلة لتنفيذها انتهت منذ سنوات ولم تُنجَز، ما أبقى نقطة الخلاف مستمرة بين بغداد وأربيل.

2. المادّتان 111 و112 (توطين سلطات المناطق وتقاسم الصلاحيات والواجبات المالية بين المركز والإقليم) — النصوص تمنح الأقاليم صلاحيات واضحة وتحدّد واجبات مشتركة، لكن التفسير والتطبيق أثارا خلافات حادة، خصوصاً في قضايا النفط والجمرك والجمع الضريبي.

3. قضايا النفط والموارد المرتبطة بمفعول مواد الدستور (متى تُطبّق القوانين الاتحادية؟ متى تُؤخذ قوانين الإقليم بعين الاعتبار؟) — النزاع على قانون النفط والغاز ومآلات الصادرات عبر خط الأنابيب إلى تركيا أعاد ملف كركوك والطاقة إلى واجهة المواجهة.

على مستوى الحقائق والأرقام، كانت خلافات الميزانية والرواتب من أشد الممارسات التي أثّرت في علاقة بغداد–أربيل خلال السنوات الأخيرة. حكومة إقليم كوردستان وكُتل رسمية كرّرت أن رواتب موظفي الإقليم تُعطَّل أو تُؤخَّر لأشهر، مع أرقام رسمية وإعلانية عن مبالغ ميزانية مُخصّصة لم تُحوَّل بالكامل (إشارات إلى مئات مليارات الدنانير/تريليونات بالعملة المحلية خلال 2024–2025). بعض بيانات الحكومة الإقليمية أفادت أنه من أصل تخصيصات صُنّفت لسنة معيّنة (مثلاً نحو 13 تريليون دينار)، لم تُصرف سوى أجزاء (مثال: 4 تريليونات دفعات أولية) قبل أن تتوقّف التحويلات أو تتأخر لأسابيع أو أشهر. هذا التجميد المالي خلق أزمة مرتدّة على الموظفين وعلى موازنة البيشمركة والخدمات.

وفي ملف النفط، أصدرت بغداد قرارات تطالب بنقل إنتاج الإقليم إلى المؤسسة الحكومية (SOMO)، وخلصت إلى تحميل أربيل مسؤولية «التصدير غير النظامي» في مناسبات عدة، بينما دافع القادة الكرد عن حق الإقليم في إدارة عقوده وموارده، مطالبين بتعويضات أو آليات شفافة لترسيم الإنتاج وتقاسم الإيرادات. هذه الخلافات دفعت إلى تجميد خطوط تصدير وأجّلت عقوداً ضخمة (مثال: مفاوضات إعادة تطوير حقول كركوك ووجود تفاوضات ثلاثية بين بغداد–أربيل–شركات دولية تطالب بآلية شاملة).

في مقابل ذلك، أطلق مسعود بارزاني دعوات علنية متكررة للشراكة والتوافق والتوازن كإطار لحلّ الخلاف. طالب السياسيون الكرد بالعودة إلى «مبادئ الشراكة والاتفاق» كمُخرج سياسي وطني يحترم الدستور ويمنع استخدام الأدوات المالية كوسيلة قسرية ضدّ الإقليم. خطابه الأخير خلال فعاليات حزبية أو لقاءات سياسية أكّد ضرورة اعتبار كوردستان شريكاً متساوياً في إدارة الدولة، وناشد القوى العراقية أن تضع الدستور أساساً لأي تفاهم مستقبلي. هذه الدعوات تأتي من إدراك أن الاستقرار الوطني مرهون بتسوية بنيوية ومستدامة، لا بصفقات لحظية.

النتيجة العملية لهذا المشهد هي ازدواجية الحماية: النص الدستوري يعطي حقوقاً، والواقع السياسي يعرقل تطبيقها. وفي هذا الفراغ تتحوّل الحقوق إلى «بضاعة تفاوض» تُستخدم في كل دورة انتخابية لتثبيت مراكز قوى أو لتحصيل تنازلات. وهنا يكمن الخطر: كلما تأخر تطبيق مواد مثل المادّة 140 أو تراجعت آليات تقاسم الإيرادات الحقيقية، تضاءلت مصداقية الدستور كمرجعية وعمق الشراكة الاتحادية.

وهذا يقود إلى استنتاج بسيط وحاسم: لا يمكن بناء دولة اتحادية عملية ومستقرة إذا ظلت الحقوق الدستورية للإقليم قابلة للتعطيل أو للتحويل إلى أدوات ضغط سياسية. عملية بناء الثقة تتطلّب خطوات ملموسة: إظهار التزام مالي مستدام (تحويلات منتظمة، آليات حسابية شفافة)، فتح قنوات فنية لحلّ القضايا النفطية تحت رقابة محايدة، وإطلاق خطة جدّية لتنفيذ البنود العالقة في المادّة 140 مع جدول زمني ومراقبة دولية إذا لزم الأمر.

أمام الحكومة المقبلة — أياً كان اسم رئيس الوزراء أو طبيعته السياسية — مهمة وطنية مزدوجة: أن تُعيد الدستور إلى مركز القرار، وأن تُحوّل وعود الشراكة إلى إجراءات ملموسة تضمن لاستقرار العلاقة مع الإقليم حقوقاً واضحة ومرتبطة بآليات تنفيذ وشفافية مالية وقضائية. وإلا فستنقلب دورة الانتخابات المقبلة على نفسها، وستبقى كل قضايا اللامنظّم دارحة تنتظر انفجاراً آخر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.