: آخر تحديث

لبنان بعد السموم: لماذا يتوجب علينا رفض وصمة "وكيل الكبتاغون"

2
1
1

منذ سنوات، اعتاد جزء من الطبقة السياسية في لبنان على مقاربة أي بادرة إيجابية من المملكة العربية السعودية وكأنها "هدية مجانية" أو "مكرمة استثنائية". إلا أن ما جرى مؤخراً من إشادة سعودية بالإجراءات اللبنانية لجهة مكافحة تهريب الكبتاغون، قُدِّم في بيروت على أنه انتصار دبلوماسي وحالة "عفو عام" عن سلوكنا. أما الحقيقة فهي أبسط وأقسى: ذكّرنا السعوديون بأنهم مستعدّون للتعاون مع أي دولة تحترم نفسها، وتضبط حدودها، وتمنع تحويل شعبها إلى عصابة تهريب تخدم مشروع إيران وحزب الله.

وهنا تبرز أهمية الحدث الذي شهدناه مع وصول الموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان إلى بيروت، بالتزامن مع وصول اللجنة الفنية السعودية المكلّفة بدراسة ملف رفع الحظر عن الصادرات اللبنانية. هذا التزامن ليس مصادفة، بل رسالة سياسية واضحة: الانفتاح السعودي ليس مكافأة للبنان، بل تذكير بأن إحياء العلاقات الطبيعية لا يتحقق إلا عندما يقرّر لبنان بنفسه أن يصبح دولة حقيقية. واللجنة التي ستجتمع مع رئيس الحكومة نواف سلام ليست مجرّد وفد تقني، بل هي جزء من إعادة هيكلة الثقة، ورسم حدود جديدة لمفهوم الدولة ومسؤولياتها. قد يُفتَح الباب السعودي مجددًا، لكن فقط عندما نغلق نحن أبواب الفوضى والتهريب والسلاح غير الشرعي.

المشكلة لا تكمن في التصريح السعودي، بل في الطريقة المُهينة التي تلقّيناه بها. أن تحتفي فئة من اللبنانيين فقط بعودة الرياض عن تصنيفنا كـ"تجار كبتاغون" يعني أن الأزمة أعمق من السياسة والاقتصاد؛ نحن أمام أزمة تتعلق بمكانة أمّة وكرامتها ودورها. كنّا نُوَصَف في الخليج كأساتذة وأطباء وروّاد أعمال، إلا أن أسماءَ مثل وفيق صفا ونوح زعيتر وزعماء عصابات وشبكات التهريب والتهرّب أصبحت تُلطِخ هذه الصورة. لم تُصَدِّر إيران وحزب الله إلى الخليج المقاومة، بل صدّرا السموم إلى جانب نموذج "الدولة الوكيل" التي تؤجّر حدودها ومرافئها لخدمة مشاريع غيرها.

لم يندرج الكبتاغون في إطار التجارة السوداء فقط؛ بل كان سلاحاً سياسياً استُخدم لضرب المجتمع السعودي والأردني والخليجي، وجزءاً من منظومة أوسع حوّلت لبنان إلى منصة تهديد للأمن العربي. من يَسبر أغوار ملفات التحقيقات الدولية يكتشف أن الأمر لم يكن بمثابة "أعمال فردية"، بل عَمل شبكة منظمة عابرة للحدود، محمية بفتاوى وغطاءات أمنية وسياسية، تبدأ من الضاحية، ولا تنتهي في البقاع أو المرافئ.

وبالتالي، إن أهميّة الموقف السعودي الأخير لا تتجسد فقط في فتح نافذة لإعادة وصل ما انقطع، بل في الرسالة التي يحملها: الطريق إلى تطبيع العلاقات مع الرياض يمرّ حصراً عبر نزع سلاح الميليشيا، واستعادة الدولة لقرارها وحدودها ومرافئها. لا يمكن للبنان أن يطلب من الخليج أن يتعامل معه كدولة طبيعية، فيما قرار الحرب والسلم خارج عن قصر بعبدا أو السراي الحكومي، بل تتحكم به غرفة عمليات مرتبطة بطهران.

وإذا كان المطلوب اليوم هو الخروج من خانة "الدولة المشتبه بها"، فهذا يستدعي قبل كل شيء مواجهة ثلاث حقائق لم نعد نملك ترف تجاهلها. أوّل هذه الحقائق هي أن حزب الله ليس "مكوّنًا سياسيًا" محضًا كما يصرّ البعض على وصفه، بل جهاز أمني ـ عسكري ـ مالي يعمل وفق منطق الوليّ الفقيه، ويستخدم لبنان كخطّ تماس متقدّم، لا كوطن وشعب ودولة. 

الحقيقة الثانية أن الاقتصاد اللبناني، مهما جرى تجميله بخطط إنقاذ وموازنات، سيبقى مكبّلاً طالما يجري استخدام أجزاء منه في خدمة اقتصاد الظلّ: تهريب الكبتاغون، وغسل الأموال، وشبكات التهريب التي حولت حدودنا إلى ثقوب مفتوحة لكل ما هو غير شرعي.

أمّا الحقيقة الثالثة، والأقسى، فهي أن العالم، والخليج أولاً، لم يعد يتعامل مع لبنان بوصفه ضحية رهائن، بل دولة تكرّر الخطأ نفسه وتعيد إنتاج المنظومة التي أوصلتها إلى هذه الحالة، وتختبئ في كل مرة خلف شعار "الوحدة الوطنية" لحماية الفساد والسلاح معاً.

هذه الحقائق لا تُمثِل خطاباً معارضاً ولا مناورة سياسية؛ بل إنها مرآة لما يراه الخارج وما نرفض نحن الاعتراف به. وما لم يُقدِم لبنان على مصارحة نفسه بتلك الحقائق، فلن يكون هناك انفتاح سعودي حقيقي، ولا تطبيع، ولا تبادل تجاري، لا بل سيصعب ترميم الثقة.

تتوجه السعودية اليوم للبنان بوضوح: نحن مستعدّون للاستثمار في بلدكم إذا قرّرتم أن تستثمروا في أنفسكم. نحن مستعدّون لفتح الأبواب إذا أقفلتم مستودعات السموم، ورفعتم يد الميليشيا عن المرافئ والمطار، وقبل ذلك عن القرار السياسي. هذه ليست "وصاية جديدة"، بل هي حد أدنى من شروط إرساء أي علاقة طبيعية بين دولة مسؤولة وشريك يطلب الدعم.

الخيار أمامنا بسيط وقاسٍ في آنٍ معًا: إما أن نبقى ملحقًا أمنيًا واقتصاديًا لمشروع إيراني ينهار في كل مكان، وإما أن نستعيد هويتنا كدولة عربية طبيعية، لا أكثر ولا أقل. إن طريق العودة تمرّ من الرياض، لكنها تبدأ في بيروت: من مجلس نواب يجرؤ على قول لا للسلاح، وحكومة تُصَنّف التهريب جريمة وطنية وليس "تفصيل"، ورئيس جمهورية يُصَوّب بوصلته نحو مصلحة لبنان، ولا الانشغال، غاضبًا، بتهديد وكيل أمني يعمل لحساب الخارج.

لبنان بعد السموم مُحتَمَل، لكنه يحتاج أولاً إلى اتخاذ قرار بنزع صفة تجار الكبتاغون عن اللبنانيين، والاقرار بأنهم ليسوا وكلاء أحد. نحن إمّا أن نكون دولة تحترم نفسها، أو نحن نستحق فعلاً الصورة التي رسمها لنا حزب الله وإيران: دولة تفتقر الى السيادة والاحترام، ومستقبلها غامض.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.