أحمد المغلوث
من يسكن مدينة «المبرز» قبل سبعة عقود وأكثر لابد أنه يتذكر جيداً «مخبز ضيف الله»، وكان هذا المخبز الفريد والوحيد في ذلك الوقت يتميز عن غيره. بإنتاج «الشريك» الدائري والشابورة «البخصم» اللذيذ ولا يمكن أن ينسى الواحد منا كيك ضيف الله خاصة الذين كانوا في أعمارنا طلاب المرحلة الابتدائية والمتوسطة حيث يقوم بتزويد بوفيهات المرحلتين بما يحتاجونه كل صباح من حاجتهم من الكيك اللذيذ، ويوم مناوبتي لشراء الخبز وغيره مما يحتاجه منزلنا لذلك أتواجد مبكراً بعد خروجي من جامع العم داود، والذي يشكل هذا المخبز الشهير جزءا من مبناه فبعد صلاة الفجر أجلس على دكته بجوار المخبز منتظراً دوري وغيري من عشاق منتجاته ومخبوزاته كل واحد منا ينتظر بشغف أن يتسلم طلبه وكل واحد منا يحتضن «الفوطة» التي سوف يلف بها ما طلبه من شريك أو خبز أو حتى البخصم والجميل، إن المخبز كان جزءا من مبنى الجامع وفي هذا المخبز يمتزج فيه الفجر مع ساعات الصباح الأولى لتخرج أرغفة الخبز طرية وساخنة، وكذلك صاجات الكيك والشريك وحتى البخصم بخفة ورشاقة ووجه صاحبه «ضيف الله» -رحمه الله- يتصبب عرقا فمن أجل أن يلبي الطلبات العديدة على إيقاع حركات مساعده والذي يناوله كرات العجين بخفة وليقوم ضيف الله وبحركة سريعة وخفيفة أيضا حيث سرعان ما تتحول كرة العجين إلى رغيف ساخن ورائحته التي تفتح شهية، كل من ينتظره بلهفة خاصة والطقس بات بارداً نعم يتحول العجين إلى أرغفة وشريك منتفخ الاوداج بل وحتى صواني الملتوت والكليجا التي يحملها إليه أبناء الأسر التي تقوم جداتهم وأمهاتهم وحتى شقيقاتهم بإعدادها في بيوتهم ومن ثم يرسلون أولادهم أو حتى صبيانهم هذا إذا كان لديهم «صبية» تعمل لديهم أو حتى النساء المتعففات اللواتي يعملن في بيوتهم خاصة الميسورين.
هذا وكان هذا الفرن يتميز بمجموعة من الأيادي الماهرة التي تسهر طوال الليل من أجل أن تقدم لعشاق منتجاته من المخبوزات الشهية، كنت أشاهد يد ضيف الله المعروقة وهو يمسح العرق الناضح من وجهه بفوطته وهو يواصل العمل بحب ولن أبالغ بسعادة وبخفة تنافس الصاقه للعجينة داخل الفرن أو حتى التنور الذي أمامه، وتكاد تسمع همسا ما تقوله «الفوطة» بارك الله فيك يا عم ضيف الله وهي تطوق جزأ من على رقبته والجزء الآخر يتدلى على كتفه، ومع الضغط الذي يواجهه من قبل زبائنه الكثر وتكرار طلباتهم بل والحاحهم المتكرر في الحصول على خبزهم بسرعة خاصة والوقت يقترب من موعد الطابور الصباحي، وكذلك انطلاق سفر العاملين خارج المدينة ومع هذا مازالت إبتسامته التي تحرك الغضون حول فمه والتي تمددت على وجهه الباسم.
نعم كان يبتسم وهو يسمع هذا وذاك من يطلب منه الاسراع في خبز «ملتوتهم» وها هو عامل بوفيه المدرسة يطالبه كذلك بتسليمه «كيك» بوفيه مدرسته، وتلك المرأة التي تقف بعيدا عن الزحام وهي تراقب عيناها المشهد من خلال برقعها في انتظار الخبز الأحمر بالتمر والذي أعدته سيدتها أم ناصر فهي عادة، وفي مثل هذا اليوم من كل أسبوع تجهز الخبز الأحمر الذي يحبه زوجها والذي يعمل في شركة النفط..
كان عبئا ثقيلا عليها أن تنتظر طويلا لكنها سعيدة أن تعمل مع سيدتها الكريمة فهي تعودت أن تعطيها بعض الأرغفة لأسرتها.. كم هي كريمة ولطيفة تطلع إلى السماء ومع تلون السحب بألوان مدهشة مع إشراقة الشمس لتشكل لوحة لا أجمل، وفجأة بدأت السماء تمطر مطرا خفيفا وراح البعض خاصة الذين خارج نطاق مدخل المخبز يحسنون من وضع غترهم، وبعضهم راح يزاحم في الدخول هربا من رذاذ المطر الذي تحول إلى زخات سريعة عندها طلب ضيف الله من أحد صبيان المخبز أن يسارع في توزيع أكياس «الخيش» والطحين على عملاء المخبز حماية لهم من المطر..
كان مشهدا أثار في نفس صاحبه فكرة لوحه (الناس والخبز والمطر) وراح يفكر كيف لوكانت اللوحة التي في خياله الآن لحولها إلى لوحة متحركة المشهد يتحرك مع مايشاهده وما يدور داخله وخارجه أمام عالم المخبز المثير عندها قطع المعلم ضيف الله، وقال اسمحوا لي أن أعطي الأولوية «للحجية» أم فهد فهي أولى منكم جميعا فسوف أعد لها خبزها والسموحه.
وراح البعض يردد بينه وبين نفسه بعض الكلمات التي لا يستطيع الإفصاح بها في العلن وكأن كلمات «المعلم» غير مقبولة ولم تجد تفاعلا من البعض. أما أم فهد فراحت تردد بصوتها الخفيض. أحسنت وبارك الله فيك، وما هي إلا لحظات وإذا بصبي المخبز يرفع «صينيتها: من «الفرن» ويضعها على رأسه وتحتها وسادة قماشية لمنع حرارة الصينية من لسع رأسه..
تذكر ذلك وهو يسير باتجاه بيتهم.. وهو يشعر بسعادة أن المخبز ليس ببعيد عن البيت فكيف لوكان بيتهم في أقصى المدينة.. لضاع الوقت في المشوار، وتذكر أيضا وهو في هذا العمر كيف باتت جميع المخبوزات بأنواعها وأشكالها تتوفر في كل مركز تموين بل أن باستطاعة سيدة كل بيت أن تطلب ما تحتاجه من المخبوزات والفطائر وفي وقت قصير تجد ما تريده من خدمات ومشتريات أمام منزلها فالبركة في خدمات «التوصيل» السريع، في هذا الزمن والوطن يعيش تطورا وازدهارا متناميا بفضل الله..

