: آخر تحديث

دبلوماسية الرياض السلمية في واشنطن

1
2
1

ليست زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن اليوم الـ18 نوفمبر (تشرين الثاني) زيارة احتفالية، بل إنها رهان استراتيجي محسوب! فبعد أن غرقت السياسات الأميركية في المستنقع الإقليمي لنتنياهو، تأتي زيارة ولي العهد السعودي اختباراً لجدية وقدرة الولايات المتحدة على بناء شراكة في نظام سلام وأمن إقليمي متماسك، والخروج من مأزقها الممتد في ما بعد غزة، وبعد الدوحة! سوى ذلك ستستمر الدبلوماسية الأميركية في الانزلاق مع نتنياهو نحو الصفقات المجتزأة والارتجال، في إقليم ملتهب وعالم محفوف بعدم اليقين.

أطلقت هجمات «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تفاعلات تسلسلية أعادت هندسة وديناميات الإقليم. لكن يا للمفاجأة! فرغم انكفاء أذرع إيران وزوال نظام الأسد، لم يكن المأزق في حسبان واشنطن ولا تل أبيب. فبدلاً من انفراج الأزمة الإقليمية، تفاقمت أزمة إسرائيل وأميركا، فلا هي تمكنت من قلب مآلات الصراع لمصلحتها، ولا نجحت في تهجير الفلسطينيين، ولا سيطرت على غزة عسكرياً، ثم لتكتشف الولايات المتحدة عزلتها المديدة، ليس فقط في الأمم المتحدة، بل في الإقليم بأسره، ثم جاءت الضربة الإسرائيلية على الدوحة، وما سبقها من هجوم صاروخي إيراني، بعلم مسبق لواشنطن، على قاعدة أميركية في قطر، لتخرق الثوابت الأساسية للتحالف بين دول الخليج والولايات المتحدة.

وما تبين بعدئذ أيضاً، أنه لا يمكن إصلاح هذا التورط الأميركي بمجرد أمر تنفيذي للرئيس ترمب بأن «العدوان على قطر تهديد للسلام والأمن الأميركيين»، ولا ينفع في تبديده اعتذار نتنياهو المخاتل. بل بسياسة جادة تأخذ بكل المحاذير.

وبعد، قرأت المملكة العربية السعودية الرسالة بوضوح! ورغم ما اتسمت به طويلاً من سمات المهندس الحذر، التقطت اللحظة بمبادرة حاسمة تستعيد فيها هندسة الإقليم، بهدف كسر الحلقة المفرغة للتخادم العضوي بين القوى العقائدية التي تمعن في تفكيك دول المنطقة، والمضي نحو آفاق السلام والاستقرار والتنمية.

زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن تضع المملكة في قلب هذا المشهد الجديد، وتضع نفسها وسيطَ قوة ندية، وشريكاً استراتيجياً ضرورياً، لتحمل الزيارة رسائل متعددة الطبقات، محددة الأهداف.

ليست الزيارة مجرد نشاط بروتوكولي، بل تبدو هجوماً سلمياً دبلوماسياً، وخطوة لاجتراح صفقة كبرى تصبح فيها المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي ركيزة أساسية لنظام سلام واستقرار استراتيجي وأمني واقتصادي بديل، وتكون فيه الشراكة مع الولايات المتحدة ضماناً واستقراراً ومؤشراً يعزز المصداقية الأميركية في الخليج.

ليس الهجوم الدبلوماسي السلمي السعودي وليد اللحظة، بل تكرس عبر تحولات داخلية تكتونية أكسبتها وزناً جيوسياسياً كبيراً. فمنذ 2018، بدأت الإصلاحات الاجتماعية الجذرية، وتوسيع حقوق المرأة ومشاركتها في القوى العاملة، وتعديل نظام الكفالة، وقبول التعددية الدينية. وتحت مظلة «رؤية 2030»، سرعت إيقاع التصنيع الدفاعي، والذكاء الاصطناعي، ومشاريع الطاقة المتطورة، لتصبح محور برنامجها للردع والتنمية والسلام.

خارجياً، ومنذ عام 2023، قامت الرياض في بكين بعقد انفراج مثمر مع طهران. كما جمّدت التطبيع مع إسرائيل لتضع بوضوح خطوطها الحمراء: الانسحاب الإسرائيلي من غزة، والتزام جاد يمكن التحقق منه بـ«حل الدولتين»، ثم تُوج هذا التوجه باتفاقية دفاع استراتيجي مشترك مع باكستان، كجزء من استراتيجية الردع، مما بدل الكثير في حسابات الإقليم. وهذا يتماشى مع خيارات المملكة ويعزز القدرة التفاوضية السعودية.

وإذ يكتسب التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية، والذكاء الاصطناعي، بعداً أمنياً واستراتيجياً، تصبح الشراكة السعودية - الأميركية عنصراً مهماً في تأمين الوصول المديد لموارد العتاد الصلب والرقائق المتطورة والخدمات السحابية.

وبهذا فإن تمكن الرئيس ترمب من تكريس مصداقيته، والإبحار في حقول ألغام اشتراطات البعض في الكونغرس، يمكن أن تؤسس الزيارة لآفاق أمن وسلام واستقرار مديد في الإقليم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد