: آخر تحديث

الرياض وواشنطن: شراكة تعيد رسم خريطة القوة الإقليمية

1
2
2

تأتي الزيارة التاريخية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة في لحظة يُعاد فيها توزيع القوة داخل النظام الدولي، حيث يتجه العالم نحو توازنات متعددة الأقطاب بدلًا من الهيمنة الأمريكية المنفردة. وفي هذا المشهد، تعمل السعودية على تثبيت نفسها كقطب إقليمي مستقل يوظّف التنافس الدولي – من واشنطن إلى بروكسل وبكين وموسكو – لتحقيق مكاسب استراتيجية وضمانات أمنية أوسع، مع الحفاظ على مساحة مناورة كبيرة في التحالفات السياسية والعسكرية.

تعيد الرياض صياغة العلاقة مع واشنطن عبر مقاربة تربط الأمن بالدور الاقتصادي، والاقتصاد بالسيادة السياسية، بحيث تتحول الشراكة مع الولايات المتحدة إلى رافعة توسّع خيارات المملكة مع القوى الكبرى الأخرى. ومن جانبها، ترى الولايات المتحدة في السعودية شريكًا ضروريًا لإبقاء ميزان القوى في الشرق الأوسط مضبوطًا بما يحفظ نفوذها ويحدّ من تمدد الخصوم.

الزيارة يمكن أن تُقرأ ضمن «البراغماتية الواقعية» التي تعتمدها الدول الصاعدة: تحالفات مرنة، صفقات مدروسة، وإعادة تعريف للمصلحة الوطنية بوصفها أمنًا تنمويًا لا أمنًا تقليديًا فقط. كما تتحرك المملكة ضمن إطار «توازن القوة» عبر استخدام علاقتها مع واشنطن لإعادة تشكيل موازين الإقليم – خصوصًا في مواجهة إيران، وتقدير موقع إسرائيل وتركيا في المشهد الجديد – مع تعزيز عناصر «الواقعية البنيوية» من قدرات ذاتية، وشبكات علاقات متعددة، وابتعاد عن الارتهان لأي قطب.

الزيارة تمثّل أيضًا اختبارًا لإعادة بناء الشراكات الكبرى في الشرق الأوسط وسط تنافس تكنولوجي عالمي، وصراع على الموارد، واهتزاز قواعد النظام القديم. السعودية هنا تسعى إلى صياغة شراكة ثنائية تجعل الوزن العسكري والاقتصادي والسيادي في كفّة واحدة، وتفتح لها موقعًا أكثر رسوخًا في قواعد النظام الدولي الجديد.

ومن المنطلق البنائي في التحليل، يمكن أيضًا قراءة هذه المراجعة السياسية كعملية توسّع تتجاوز الأمن الصلب إلى تعاون اقتصادي واستثماري وتكنولوجي، قائم على الاعتماد المتبادل والمؤسسات المشتركة. هذا يتسق مع «رؤية 2030» التي تدفع المملكة نحو انفتاح اقتصادي وتنمية مستدامة، فيما تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز الحوكمة الدولية والتعاون متعدد الأطراف مع الرياض، والتوازن الضابط للعلاقات الدولية.

تثبيت التحالف السعودي–الأمريكي عبر تعاون دفاعي وأمني هو استثمار مباشر في موازين القوى، يعزّز قدرة المملكة على مواجهة التهديدات الإقليمية ويضمن حماية مواردها الحيوية، بينما تحاول واشنطن الحفاظ على حضورها الاستراتيجي في الخليج، وضمان استقرار سوق الطاقة، ومنع توسّع نفوذ المنافسين.

في المحصلة، الزيارة ليست مجرد حدث دبلوماسي رفيع، بل خطوة محسوبة ضمن مشروع سعودي أوسع لتراكم أوراق القوة ولإعادة تموضع الدولة في قلب التوازنات الدولية. السعودية تدخل مرحلة تتجاوز فيها دور «الشريك التقليدي» إلى لاعب يمتلك أدواته، ويعيد تشكيل علاقاته وفق حسابات القوة ومصالحه السيادية، لا وفق إيقاع الآخرين. والولايات المتحدة، رغم تراجع وزنها النسبي، تدرك أن بقاء نفوذها في الشرق الأوسط – كمنطقة استراتيجية حسّاسة – يمرّ عبر الحفاظ على شراكة قوية مع الرياض لا يمكن استبدالها أو تجاهلها.

بهذا المعنى، تتحرّك المملكة بثقة نحو صياغة معادلة جديدة: شراكات متعددة، استقلالية أعلى، وقدرات دفاعية واقتصادية تعزّز قدرتها على فرض مكانتها في نظام عالمي يُعاد تشكيله. والزيارة إلى واشنطن ليست نهاية المسار، بل محطة تُظهر أن السعودية باتت جزءًا فاعلًا في رسم قواعد اللعبة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.