يتابع المواطنونَ في السعودية زيارةَ الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة باهتمام بالغ؛ وذلك لما ستتضمَّنه من بنودٍ حيوية سياسيةً واقتصاديةً وعسكريةً وأمنية، وأيضاً لما هو متوقع لها أن تشكّلَ رافعة للعلاقات بين الرياض وواشنطن، والدفع بها لمستويات متقدمة؛ ما يعني أنَّ مفاعيلَ الزيارة تتجاوز الدبلوماسية الخارجية، إلى التأثير على الداخل السعودي في ملفات الاقتصاد وتنويع مصادر الدخلِ والطاقة والذكاء الاصطناعي، وجميعُها مجالات باتت تتقاطع وتطلعات المواطنين، ورغبتَهم في أن تمتلكَ المملكة العلمَ والقدرة على التقدم التقني.
من هنا، جاءت زيارةُ ولي العهد السعودي إلى واشنطن تعبيراً، ليس عن رؤية الدولة ومؤسساتها وفقط، بل كونها مؤشراً لتطلعات السعوديين نحو المستقبل، وكيف يقدّمون أنفسَهم بصفتهم دولة ذاتِ مسؤولية عالية عن توازنات واستقرار الشرق الأوسط وأمن الطاقة العالمي، وشريكاً موثوقاً في مكافحة التطرف والإرهاب، وفاعلاً سياسياً في صياغة مبادرات السلام وتخفيف التوترات، إضافة لمستثمر قادرٍ على الاستفادة من القدرات الماليةِ في توظيفها بشكل مدروسٍ في مشاريعَ مستقبلية، تساهم في توطين التقنية وتدريب الجيل الجديد واكتساب المعرفة، وتجذب الاستثمارات الكبرى في القطاعات المتنوعة!
بذلك، تكون السياسة الخارجية السعودية جزءاً لا يتجزأ من صناعة «الهوية الوطنية» التي تتَّسم بالحيوية والقدرة على التفاعل مع الآخر والتكامل معه. هوية قادرة على أن تتَّصفَ بالمرونة في الوقت ذاته الذي تحافظ فيه على جوهرها الصلب، وهي صلابة لا تشير إلى الجمود، بل إلى الفخر بالأصل والتراث والقيم العربية التي نشأت عليها الدولة السعودية الأولى، وهذا الفخر اليوم ليس نابعاً من القصائد الباذخة في المديح وإعلاء قيمة الذات، بل من خلال الإنجاز والعمل وما تحقق من مستهدفات «رؤية المملكة 2030»، وما للسعودية من أدوار فاعلة ومساعٍ للدفع بترسيخ مسار موثوق لعملية السلام في الشرق الأوسط، وهذا تجلَّى عبر «المؤتمر الدولي لحل الدولتين» والمواقف الصريحة المدينة للاعتداءات الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان وإيران وقطر، وما مارسته حينها المملكة وما زالت، من دبلوماسية حدَّت من انزلاق الشرق الأوسط نحو مواجهات أكثر عنفاً ودماراً!
هنالك تنوعٌ في علاقات السعودية الخارجية «من بكينَ إلى طهران وإسلام آباد ودمشق، توضّح طبيعةُ سياسةِ وليّ العهد في التَّوجه نحو علاقاتٍ متوازنة، وتخفيفِ التوتر، وإعداد المنطقة لمرحلة جديدة»، كما جاء في مقالة الأستاذ عبد الرحمن الراشد في صحيفة «الشرق الأوسط»، التي رأى فيها أنَّ «مشروعَ وليّ العهدِ الذي وضعَ اسمَه وثقلَه فيه هو التطوير الاقتصادي، وليس في الحروب أو التنافس السياسي»، مبيناً أن «برنامجه يقوم على نقلِ بلادِه من اليوم إلى المستقبل» معتبراً أنَّ «التغييرات السعودية التي أنجزَها على أرض الواقع هي التي شدَّتِ اهتمامَ الرئيس الأميركي نحو وليّ العهد».
هذا التغيير السعودي الواسع والملموس تجاه المستقبل، هو ما يجعلُ لقاءَ الأمير محمد بن سلمان والرئيس دونالد ترمب يكتسب معنى يتجاوز البعد الرمزي إلى شراكة أكثرَ متانة بين الرياض وواشنطن. وهي علاقات تتجاوز البعد الشخصي إلى مداها المؤسساتي الدائم الذي يتطوّر باستمرار. فالدول في علاقاتها يهمُّها الاستدامة، وأن تكونَ هنالك اتفاقيات ملزمة قانونياً، يُصادق عليها عبرَ المؤسسات الدستورية، وتترسّخ من خلال التشارك في المصالح البينية وتبادل الخبرات.
بالعودة إلى الداخل السعودي، فالزيارة تُقرأ بمزيج من الواقعية والتطلع. فالأجيال الشابة التي تشكل الكتلة الأكبر في المجتمع، تنظر إليها بوصفها فرصة لتعزيز الاستثمار، وخلق وظائفَ نوعية وتسريع مشاريع التحول الاقتصادي، ما يعني مزيداً من التنمية والرفاهية والتحديث المجتمعي. في المقابل، تولي فئات أخرى اهتماماً بالبعد السياسي والقيمي للعلاقة مع واشنطن، خصوصاً ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية ومستقبل الاستقرار الإقليمي وأثر التحالفات على منطقة الخليج العربي. ما يجمع بين هاتين الرؤيتين هو الإدراك بأنَّ مكانة السعودية الدولية جزءٌ من فاعليتها، وأنَّ نجاح السياسة الخارجية ينعكس مباشرة على الثقة الداخلية وعلى طموحات المجتمع.
تفعيل الشراكات الاستثمارية، والحصول على التقنيات الحديثة في الطاقة والذكاء الاصطناعي والصحة والبحث العلمي، هي أيضاً ملفات تهم السعوديين. والتقدم في جميع هذه المجالات يبقى مرهوناً بقدرة الطرفين على تجاوز نقاط التباين والتركيز على المصالح الواقعية التي هي كثيرة وكلاهما في حاجة لها.
السعودية اليوم ليست تلك التي تكتفي بطمأنة الحلفاء أو الاستجابة للضغوط؛ إنها دولة تصوغ مستقبلها بثقة وتستخدم علاقاتها الدولية بمثابة أدوات لبناء اقتصاد قوي وسياسة مستقلة فعالة ومقنعة وبعيدة عن الانفعال، متكئة على طموحات شعب يريد أن يرى بلاده في موقعها الذي تستحقه.

