زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، إلى واشنطن في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2025، ليست مجرد محطة بروتوكولية، بل مفصل استراتيجي يعكس تحوّلًا في المكانة الدولية للسعودية بقيادته.
فاستقباله في البيت الأبيض بمظاهر شبه ملكية، من مراسم South Lawn إلى العشاء الرسمي في East Room، يعكس اعترافًا عالي المستوى بسياسة الأمير ووزن المملكة المتنامي.
لكن ما وراء هذه الصور الجذابة يكمن معنى أعمق: فإضافة إلى الشخصية التي تقف وراءها، شخصية الأمير محمد بن سلمان (MBS)، الذي أعاد تعريف دور السعودية في المشهدين الإقليمي والعالمي، تمثّل الزيارة نقطة تحوّل استراتيجية في العلاقات السعودية–الأميركية. فهي ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل إعلان سياسي واقتصادي عن عودة دور محوري للسعودية في خريطة التحالفات الدولية. ووفق تقارير محلية ودولية، ترتبط الزيارة بهدف تقوية الروابط الدفاعية والاقتصادية، وتعزيز الشراكة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والطاقة.
أولًا: سياق الزيارة — عالم متحوّل يحتاج إلى حلفاء موثوقين
نحن اليوم أمام واقع دولي مضطرب: نزاعات مستمرة في أوروبا، صراع الهيمنة في شرق آسيا، وأزمات إقليمية في الشرق الأوسط. في هذا الإطار، تعيد واشنطن ترتيب أولوياتها، وتبحث عن شركاء قادرين على تقديم استقرار حقيقي.
من جانب السعودية، فإن تحركاتها الخارجية باتت أكثر استقلالية من ذي قبل: لم تعد مجرد دولة مطلوبة لدعم أمني أو نفطي، بل تسعى لتنويع تحالفاتها ومزاوجة مصالحها مع قوى عالمية وإقليمية. وتأتي زيارة ولي العهد إلى واشنطن في هذا السياق كخطوة محورية لإعادة بناء الثقة، بعد مراحل من التوتر أو البرود، وتعزيز قدرة المملكة على إيجاد توازن في خضم النظام العالمي الجديد.
ثانيًا: أهداف الزيارة — مشروع شراكة استراتيجية متكاملة
1. أمن ودفاع: نحو مظلة استراتيجية متطورة
تبحث الرياض وواشنطن خلال هذه الزيارة في صياغة تفاهمات دفاعية عميقة، تشمل تحديث القدرات العسكرية السعودية والتعاون في الصناعات الدفاعية. هذا التوجه يعبّر عن فلسفة محمد بن سلمان في تعظيم القوة الذاتية للمملكة، بدلًا من الاقتصار على الاعتماد على الضمانات الخارجية.
2. استثمارات عالمية متجددة
ضمن رؤية 2030، تلعب الاستثمارات دورًا محوريًا في استراتيجية محمد بن سلمان. فالمملكة، عبر صندوق الثروة السيادي (PIF)، ضخّت استثمارات كبيرة في الأسواق الأميركية؛ وقد أعلن الصندوق أن قيمة حيازاته في الأسهم الأميركية ارتفعت إلى نحو 23.8 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2025، مع تركيز على قطاعات التكنولوجيا، الرقائق، والصحة.
هذه الخطوة لا تهدف فقط إلى عائد مالي، بل إلى إعادة هندسة العلاقة الاقتصادية بين الرياض وواشنطن، من علاقة مورد طاقة إلى شراكة استثمارية استراتيجية.
3. إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية
تأتي زيارة ولي العهد في لحظة تشهد فيها السعودية إعادة ترتيب خريطة تحالفاتها الإقليمية:
-
مع إيران: بعد سنوات من التوتر، وقّعت السعودية وإيران اتفاق استعادة العلاقات الدبلوماسية برعاية صينية. (Al Jazeera)
-
يشمل الاتفاق تفعيل الاتفاق الأمني الموقَّع عام 2001، واتفاق التعاون الاقتصادي والتكنولوجي الموقَّع عام 1998. (The Iran Primer)
-
التعاون مع تركيا، والانفتاح نحو دول آسيا، وإدارة دقيقة لمسار تطبيع محتمل مع إسرائيل تحت سقف مصالح استراتيجية.
علاوة على ذلك، تعزز الرياض استقلاليتها من خلال دعم بنود السلام الإقليمي ضمن رؤية أوسع تتجاوز التحالف الأحادي.
هذا التوجه المتعدد المحاور يضع الشراكة مع الولايات المتحدة ليس كخيار وحيد، بل كركيزة ضمن شبكة استراتيجية واسعة.
ثالثًا: محمد بن سلمان كقائد استراتيجي تحويلي
أ. رؤية داخلية واضحة
منذ توليه الأدوار القيادية، رسم الأمير محمد بن سلمان بوضوح ملامح تحول داخلي حقيقي: مكافحة الفساد، تمكين المرأة، تحديث البنية الاجتماعية والاقتصادية، والانفتاح الثقافي. هذه الإصلاحات ليست شكلية، بل جزء من مشروع لإعادة بناء المجتمع السعودي بما يعكس طموحًا للتنمية المستدامة والحداثة، دون التفريط بالهوية.
ب. استقلالية القرار
من منظور سياسي، يمكن قراءة زيارة واشنطن على أنها مؤشر على قدرة محمد بن سلمان على اتخاذ قرارات استراتيجية ذات أفق طويل، بعيدًا عن الاعتماد التقليدي على شركاء خارجيين دون مقابل. إعادة صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة من خلال بنود استثمارية وأمنية تعكس نهج قيادة يقوم على الندية والمصلحة المتبادلة، لا على التبعية.
ج. طموح دولي ودور محوري
المتابع لمسيرة محمد بن سلمان يدرك أن طموحه لا يقتصر على الداخل: بل يمتد إلى إعادة ترسيخ موقع المملكة كلاعب محوري في النظام الدولي الجديد. من تعزيز النفوذ الاقتصادي إلى المساهمة في أمن الطاقة العالمي، يسعى إلى بناء السعودية كقوة استراتيجية عصرية، ليست دولة نفط فقط، بل لاعب دولي فاعل.
رابعًا: التحديات والمخاطر — قراءة واقعية
رغم الزخم الإيجابي والطموح الكبير، هناك معيقات حقيقية يجب إدراكها:
-
محدودية الدعم الأميركي الكامل
الولايات المتحدة قد تكون مترددة في الدخول في تفاهمات دفاعية ضخمة أو طويلة الأجل، خاصة في ظل الانقسام الداخلي حول التحالفات في الشرق الأوسط، وتغيّر أولويات الإدارة أو الكونغرس. -
ملف التطبيع مع إسرائيل
الموضوع لا يزال حساسًا: قد يبرز كعنصر تفاوضي لكنه يحمل مخاطر ردود فعل إقليمية ودولية إذا لم يُدار بحذر. -
اللعبة الإقليمية المعقدة مع إيران
رغم اتفاق بكين، لا تزال هناك شكوك حول تنفيذ كل البنود، خاصة فيما يتعلق بالحوثيين وصراع اليمن. (Doha Institute for Graduate Studies) -
التوازن بين القوى الكبرى
السعودية تسعى للحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة، لكنها تعزّز أيضًا روابطها مع الصين. دخول بكين كوسيط في اتفاق الرياض–طهران يعكس تحوّلًا في النظام الإقليمي ويضع الرياض في موقع مخاطِب متعدد المحاور. (Al Jazeera) -
ضغوط داخلية
الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية العميقة ليست خالية من التوتر؛ فبعض التيارات الداخلية تشكّك في تركيز السلطة أو في سرعة التغيير.
خامسًا: التبعات المحتملة على المشهد الإقليمي
إذا نجحت زيارة ولي العهد في تحقيق الأهداف المعلنة (أو حتى بعضها)، يمكن أن نشهد:
-
تعميق التحالف الدفاعي بين واشنطن والرياض ضمن إطار استراتيجي طويل الأجل، ما يعزز قدرة المملكة على لعب دور أمني إقليمي.
-
ضخ استثمارات سعودية كبيرة في الاقتصاد الأميركي، ما يربط رأس المال السعودي بالمصالح التكنولوجية والابتكارية في الولايات المتحدة، ويعزّز من قدرة السعودية على تحقيق رؤية 2030 بسرعة أكبر، كما يزيد من تأثيرها الاقتصادي العالمي.
-
موقع محوري للسعودية في التسوية الإقليمية، بفضل علاقاتها المتوازنة مع إيران ودورها الاقتصادي، ما يجعل الرياض مركز توازن مهم في الشرق الأوسط.
-
دور ريادي دولي: السعودية بقيادة محمد بن سلمان قد تصبح أكثر قدرة على التأثير في قضايا مثل الطاقة، التقنية، والاستقرار الإقليمي، ليس كمُتلقٍ، بل كمُشكّل لمعادلات جديدة.
خاتمة: تحالف بصيغة المستقبل
زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن هي أكثر من لقاء سياسي — إنها خطوة استراتيجية في بناء مستقبل جديد:
-
شراكات قائمة على الندية
-
اقتصاد يفرض احترامه
-
دبلوماسية تؤمن بالتنوع
ولي العهد يتحرك ضمن مشروع كبير، يرى فيه السعودية "دولة مركزية" تمتلك القوة البشرية والاقتصادية والسياسية لقيادة المنطقة.
من خلال هذه الزيارة، يظهر ولي العهد كقائد استراتيجي لا يكتفي بإصلاح الداخل فحسب، بل يُعيد تحديد معادلات القوة على مستوى العالم.
هي خطوة تؤسس لتحالف دفاعي متوازن، وشراكة اقتصادية واسعة، ودور إقليمي أكثر رسوخًا، وحضور دولي فاعل تقوده رؤية واضحة وشجاعة.
هذه الزيارة تمثل لحظة فارقة في تاريخ المملكة؛ ليست لإعلان وجود فحسب، بل لصياغة مكانتها كلاعب محوري في النظام العالمي القادم.
تحت قيادة محمد بن سلمان، السعودية لا تسعى فقط لأن تكون حاضرة في العالم، بل لتكون من يصنع معالمه.

