الزيارة التاريخية لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، رئيس الوزراء، إلى واشنطن اليوم، لا نبالغ إذا ما وصفناها بأنها زيارة تتجاوز في أهميتها كافة لقاءات زوار البيت الأبيض من رؤساء الدول، ليس فقط بسبب الاحتفالات الاستثنائية وغير المسبوقة التي تحتفي بها واشنطن اليوم بقدوم محمد بن سلمان، بل كذلك لأن هذه الزيارة المنتظرة تأتي محفوفة بآمال وتوقعات إيجابية عريضة لكثيرين في المنطقة العربية والشرق الأوسط، من إيران إلى لبنان، إلى سوريا، إلى فلسطين، إلى السودان وغيرها من بقية الدول العربية.

فاليوم، وعبر الاهتمام الكبير بهذه الزيارة في العديد من العواصم العالمية والإقليمية، بات الجميع مدركًا لأهمية الدور التاريخي الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في المنطقة، في الشرق الأوسط والعالم، وهو دور ريادي تعيَّن على المملكة الاضطلاع به نظرًا للعديد من الاستحقاقات التي تملكها؛ من ثقل جيوسياسي، وقدرات اقتصادية، ومكانة رمزية في العالم الإسلامي، وقوة إقليمية وتأثير دولي، ولهذا يأتي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن وفي يده الكثير من الأوراق الاستراتيجية التي يضغط بتأثيرها لإنجاز العديد من الأهداف في دوائر مختلفة: محلية، وإقليمية، ودولية.

ولعل من أهم دلالات هذه الزيارة، أن التمهيد لها في الأسابيع السابقة كان عبر زيارات شخصيات سياسية سعودية كبيرة وثقيلة الوزن في المملكة، كوزير الدفاع صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلمان، ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد العيبان، ووزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم، وكذلك وزير الاتصالات وتقنية المعلومات عبدالله السواحة، إلى جانب ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي؛ الأمر الذي يعكس ما تنطوي عليه هذه الزيارة من إمكانات تحمل الكثير من المفاتيح التي تؤدي إلى انفراج أزمات المنطقة.

وبحسب تعليق مديرة برنامج الخليج والجزيرة العربية في مجموعة الأزمات الدولية، ياسمين فاروق، لشبكة NPR الحكومية الأمريكية، فإن عوامل نجاح هذه الزيارة تكمن في "اهتمام كل من ترامب والأمير محمد بن سلمان بالعلاقات الاقتصادية والتجارية والنمو الاقتصادي، الأمر الذي يجعل لهذا العامل تأثيرًا في إنجاح محادثات المكتب البيضاوي... إنهما يفهمان بعضهما، ويتحدثان اللغة نفسها حين يتعلق الأمر بالنزاعات والأمن الإقليمي. فهما يريدان وقف الحروب، ويريدان للمنطقة أن تتحرك من انعدام الأمن إلى الازدهار". تلك هي الخلاصة التي تنطوي عليها أهم أسباب هذه الزيارة.
يأتي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن اليوم، وقد أنجزت السعودية (إلى جانب نهضتها الداخلية) الكثير من الاستحقاقات في مجال الدفاع والأمن العربي والإقليمي. فاليوم، ما يرجح كفة المملكة العربية السعودية ويجعلها اللاعب الأكبر في المنطقة العربية والشرق الأوسط هو حصيلة جملة من تلك الاستحقاقات التي أنجزتها، كاتفاقها مع إيران الذي أنهى الاستقطاب المذهبي والتوترات السياسية بين البلدين، إلى إنجازها الدبلوماسي الكبير في أيلول (سبتمبر) الماضي عبر عقد مؤتمر حل الدولتين في نيويورك، الذي أدى إلى عزل إسرائيل وإلى تحولات سياسة ترامب الجديدة التي أدت إلى مؤتمر شرم الشيخ ووقف الحرب في غزة، إلى جهودها الصادقة في دعم سوريا ومساعدتها على استعادة دورها، إلى اهتمامها بلبنان والسودان، لاسيما في الوقت الراهن. وهي مهام يضعها الأمير محمد بن سلمان على طاولة التفاوض من أجل المزيد من الحلول لتلك المشكلات، فكل من الرجلين (بن سلمان وترامب) يرغبان في رؤية شرق أوسط أكثر أمنًا وازدهارًا.

وبرغم تأكيد كثير من المحللين والمراقبين على أن مستهدفات هذه الزيارة التاريخية للأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن تعكس إرادة حقيقية في إنجاز خمسة ملفات استراتيجية، تتمثل في مجالات الدفاع والأمن، والطاقة، والتكنولوجيا، والسلاح، وسلام الشرق الأوسط، إلا أنه من الأهمية بمكان قراءة مستهدفات هذه الزيارة في ضوء استحقاقات كثيرة تحتاج فيها دول المنطقة إلى المملكة العربية السعودية، التي طورت مفهومًا جديدًا للأمن التنموي. فقبيل انطلاق الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، تلقى رسالة هامة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، في إشارة واضحة إلى اهتمام إيران بجدوى هذه الزيارة ودورها في حسم الكثير من ملفات الأمن في الشرق الأوسط.
إن مستهدفات زيارة الأمير محمد بن سلمان من أجل الدفاع، والأمن، والطاقة، والتكنولوجيا، والسلاح، وسلام الشرق الأوسط، التي يدور حولها لغط كثير في بعض دوائر لوبيات واشنطن، ينسى كثيرون أنها مستهدفات تلقى في الأساس استحسانًا وتوافقًا بين كل من ترامب والأمير محمد بن سلمان، سواء أكان ذلك لمشروعية تلك المستهدفات، أو لدورها في جلب الأمن والاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط. ذلك أن حرص المملكة العربية السعودية على تزويدها بطائرات F35 يأتي في سياق توازن الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، وهو ما من شأنه أن يدعم استقرار المنطقة بضمان ذلك التوازن، فيما تستهدف مشاريع الطاقة النووية السلمية التي تطمح المملكة العربية السعودية إلى استجلابها من الولايات المتحدة وتوطينها محليًا؛ ضمان ازدهار المشاريع العملاقة التي تنخرط فيها المملكة عبر استراتيجية "رؤية 2030". كما أن مشاريع توطين الذكاء الاصطناعي أصبحت اليوم من أهم نطاقات الاستثمار في المستقبل، إذ تطمح المملكة العربية السعودية لأن تكون الدولة الثالثة في مجال استثمارات الذكاء الاصطناعي بعد أميركا والصين. ولهذا، لم يكن مستغربًا حين رشحت الأخبار اليوم في وقت مبكر بموافقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تزويد المملكة العربية السعودية بمنظومة طائرات F35 حتى قبيل موعد اللقاء، وهو من بوادر نجاح هذه الزيارة التاريخية.
هناك الكثير من الأوراق التي تملكها المملكة العربية السعودية لضمان نجاح هذه الزيارة عبر تحقيق مستهدفاتها. فالمملكة، إذ تطمح اليوم لتوقيع اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة، إلى جانب ما ذكرناه سابقًا، فهي تدرك رغبة الرئيس ترامب الحقيقية في تعميم السلام بالشرق الأوسط، لاسيما وأن وقف إطلاق النار في غزة، بموجب اتفاق شرم الشيخ، لا يزال هشًا.
وفي ظل النجاح الكبير لمؤتمر حل الدولتين، برعاية المملكة العربية السعودية وفرنسا، خلال شهر أيلول (سبتمبر) الماضي في نيويورك، وردود فعله التي لعبت دورًا كبيرًا في تحويل السياسة الأميركية نحو إسرائيل وسرعت بعقد اتفاق شرم الشيخ، تبدو الفرصة أكثر من مواتية للرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنجاز أكبر حلم طالما راود رؤساء الولايات المتحدة دون القدرة على إنجازه، أي صناعة السلام الحقيقي والنهائي في الشرق الأوسط. فاليوم، يدرك الجميع في العالم أن مفتاح سلام الشرق الأوسط موجود حصريًا بيد المملكة العربية السعودية، لثقلها وتأثيرها الكبير إقليميًا وعالميًا.
وفي ظل استطلاعات الرأي في أميركا، التي كشفت عن تأييد غالبية الأميركيين لدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، فإن هناك اليوم فرصة كبيرة أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنجاز استحقاق تاريخي تؤشر كل المعطيات الجيوسياسية على إمكانية تحققه عبر المملكة العربية السعودية فقط، أي سلام الشرق الأوسط. فالمملكة العربية السعودية هي الضامن الحقيقي للسلام في الشرق الأوسط، بعد أن فشلت كل جهود الرؤساء الأميركيين في إحلال السلام في الشرق الأوسط منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى. يأتي الأمير محمد بن سلمان اليوم إلى واشنطن، وفي يده كثير من الحلول لأزمات المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فالمملكة العربية السعودية، التي طالما طرحت منذ عام 2002 مبادرة السلام العربية التي اتفق حولها كل العرب وأجمعوا عليها حينما تم إعلانها في مؤتمر القمة العربية ببيروت آنذاك، هي ذاتها التي ترغب اليوم في إحلال السلام الشامل في المنطقة، وتشترط لأي اتفاق سلام قيام دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل... يأتي الأمير محمد بن سلمان اليوم في هذه الزيارة التاريخية إلى واشنطن برهانات استراتيجية رابحة، تلبي الطموح المشترك بين الرجلين (ترامب وبن سلمان) في رؤية شرق أوسط يعمه السلام، والأمن، والرخاء، والازدهار. ففي هذا اليوم التاريخي، تبدو كل الظروف مواتية للرئيس ترامب للمضي قدمًا في تلبية مستهدفات زيارة الأمير محمد بن سلمان، لأنها زيارة تراهن على إعادة رسم خرائط القوة الإقليمية كاستحقاق جدير بالمملكة العربية السعودية في الشرق الأوسط.


