في زاوية منسية من الإعلام العراقي، حيث تُصاغ الأخبار وفق المزاج السياسي أكثر من استنادها إلى الواقع، نجد شاعرًا مثل حميد سعيد، رجل لم يتقن قواعد اللعبة في النفاق والتزلّف وبيع المواقف. في زمنٍ صارت فيه الأيديولوجيا أشد فتكًا من الفيروسات، وأكثر خطرًا من الأوبئة، قررت بعض وسائل الإعلام العراقية أن تمارس حظرًا إعلاميًا غريبًا تجاه خبر حصوله على جائزة العويس، وكأن هذا الشاعر جاء من جزيرة مجهولة، لا من مدينة الحلة الفيحاء، المدينة التي لو نطق الشعر لقال: "أنا أُمُّه وأبوه!".
في فضاء الشعر، ثمة أصوات لا تحتاج إلى جغرافيا لتثبت حضورها، ولا إلى منصات لتعلن خلودها. حميد سعيد واحد من أولئك الشعراء الذين لا يكتبون القصيدة، بل ينسجونها من الغربة والحنين والذاكرة، كأن الكلمات وطنه البديل، والقصيدة خريطة روحه التي لم تضل الطريق رغم المسافات.
أي إعلامٍ هذا الذي يتجاهل تكريم شاعر عربي كبير، صاحب ثلاثة عشر ديوانًا شعريًا، قامة أدبية شامخة، وكأن الأمر لا يعنيهم؟ هل تخيفهم القصيدة؟ أم أنَّ الذائقة الأدبية أصبحت مرهونة ببطاقات الولاء الحزبي، لا برائحة الحبر ووهج الفكر؟
ما هذه العلاقة الغريبة بين الإعلام العراقي والشاعر حميد سعيد؟ شاعرٌ يكتب للوطن بأصدق الكلمات، يحلم ببغداد ونخيلها، ينسج قصائده من منفاه القسري، ويبقى قلبه معلّقًا بشوارع العراق، ومع ذلك تقابله بعض وسائل الإعلام وكأنه مجرد خبر لا يستحق الذكر.
إنه لا يكتب عن العراق فقط، بل يكتب العراق نفسه، يعيد تشكيله في القصيدة، كأنه يحاول إنقاذه من التاريخ القاسي، ومن النسيان الإعلامي، ومن خذلان السياسة. في دواوينه لغة تتحدى الزائل والعابر، وقصيدة لا تخضع للزمن، ووطن يُعاد بناؤه بالكلمات. فالشاعر الحقيقي لا يحتاج إلى خريطة سياسية ليعرف أين ينتمي، بل يحتاج إلى ذاكرة لا تخون، وقلب لا يساوم على الحنين.
وما يزيد من مرارة المشهد، أنَّ بعض من تجاهلوه اليوم، كانوا بالأمس يعتنقون الأيديولوجية ذاتها، ثم شهدوا "معجزة التحوّل" بعد عام 2003، فخلعوا جلودهم كما تفعل الأفاعي، وارتدوا عباءات جديدة وهم يرددون: "لم نكن كما كنّا، كان ذلك مجرد سوء فهم تاريخي!".
كان يمكن للخبر أن يمر ببساطة، لكنه اصطدم بجدار اللامبالاة الإعلامية، وكأن الشعار الجديد هو: "إن لم يكن من جماعتنا، فلا يُذكر اسمه حتى في الهوامش!"، أي عبث هذا؟ وأي انحدار في الذائقة؟ إنه ليس تجاهلًا لشاعر فحسب، بل إهانة للثقافة العراقية نفسها، وكأن كل من لا يسير وفق بوصلة الجماعة يُلقى في الظل دون حتى قراءة عنوانه.
لو كتب حميد سعيد قصيدة تمجّدهم، لنُصبت له التماثيل، وأقيمت له الاحتفالات، وربما سُمّيت الشوارع باسمه. لكنه لم يفعل. لأن قصيدته لا تبايع أحدًا، ستبقى معزولة في وطن لا يعترف بمن يغرّد خارج السرب السياسي.
نعم، من باب "رفع العتب الثقافي"، أرسلت وزارة الثقافة العراقية واتحاد الأدباء تهنئة خجولة، متواضعة، وكأنهما يهمسان في أذن التاريخ: "نحن نعلم بإنجازه، لكن لا نريد أن نزعج أحدًا!" كان الموقف شبيهًا بتقديم وردة واحدة بدلًا من باقة، أو بالتصفيق بأطراف الأصابع خشية أن يُسمع الصوت عاليًا في دهاليز السياسة!
ويا للمفارقة، فحميد سعيد لا يحتاج إلى تهنئة مرتجفة، فقصائده تتحدث عنه، والثقافة العربية تحتفي به بثقة وفخر، بينما بعض الإعلام العراقي يهمس باسمه وكأنه سرّ يجب أن لا يُقال.
ومع ذلك، يواصل الشاعر الكتابة كالنهر، ينساب بين الكلمات، يرسم صورة العراق في القصيدة، حتى من منفاه، لأن الشاعر الحقيقي لا يحتاج إلى موافقات رسمية ليكون شاعرًا.
مبروك للقصيدة التي نجت من خذلان الإعلام ومبروك للشاعر الذي احتُفي به عربيًا رغم التجاهل المحلي ومبروك للإعلام العراقي على براعة فن "النسيان الانتقائي"، الذي تفوّق على الشعر نفسه.
سيبقى حميد سعيد شاعرًا، حتى لو حاولوا إخفاءه خلف ضجيج التحزّب والتجاهل لأن القصيدة الحقيقية لا تُسكتها التغطيات الموجهة وهو ليس مجرد شاعر، بل حارس القصيدة العراقية، رجلٌ يكتب للوطن، حتى لو لم يكتب الوطن عنه.
وهو القائل:"يا عراقُ، كم مرةً متُّ فيكَ، وكم مرةً عدتُ حيًّا بكَ!".