: آخر تحديث

الجنين الحكومي… حين قررت الدولة أن تبدأ من الرحم

10
8
6

في حقبة ما بعد الإنسان الطبيعي، لم تعد الدولة تكتفي بتنظيم المجتمع… بل بدأت تُهندس من يكون هذا المجتمع ومشروع (الجنين الحكومي) لا يطل من روايات الديستوبيا، بل يتسرّب من تقارير البحث العلمي، محاطاً بهالة من الصمت، مُغلفاً بمصطلحات لينة مثل (تحسين النسل) و(أمن بيولوجي) و(التحكم في المخاطر الوراثية).

لكنَّ الحقيقة ليست ناعمة، إنها بوضوح أبرد من مختبر، وأهدأ من صرخة طفل لم يُسمح له بالبكاء، إنها واقع جديد تُعيد فيه الأنظمة رسم الإنسان من لحظة تكوينه، وتقرر مسبقاً ماذا سيكون… وماذا لا يجب أن يكون.

في المراكز المغلقة، تُؤخذ عينات من نخبة الجينات: ذكاء مرتفع، سلوك منضبط، صحة مثالية، ميل طبيعي للامتثال وتُخصّب البويضات دون حب، وتُزرع في أرحام لا تعرف الأمومة، بل تعرف العقود، نساء يُخترن بدقة ليس لجمالهن أو دفئهن، بل لقابليتهن للامتثال… لكونهن حاملات وظيفيات، لا أكثر!

منذ لحظة التكوين، تبدأ الخطة المدروسة بعناية، يُعدّل الجينوم وتُضبط الاستجابات العصبية وتُزرع شرائح الاستشعار وتُبنى شبكة من التوقعات: كيف سيتصرف هذا الطفل حين يغضب؟ هل سيُجادل؟ هل سيشك؟ هل سيبكي أكثر من المسموح؟

المطلوب ليس مواطناً حُرّاً بل مواطناً يمتثل وينفذ ولا ينحرف عن المسار ولا يطرح سؤالاً فلسفياً ولا يُرهق المؤسسة بإحساسه المفرط.

وحين يولد، لا يُستقبل بالتهليل… بل بملف، درجات حرارة القلب، خرائط الدماغ، معدل الاستجابة للتعليمات، ونسب احتمالات الانحراف السلوكي، كل شيء فيه… تم قياسه!

لا يُسلّم لأمه، بل يُرسل إلى مركز تنشئة، بيئة لا تشبه الأسرة، بل تُشبه قاعة تحكم بيولوجي، العاطفة تُعدّ ترفاً، والغريزة تُعامل كخطأ محتمل.

في تلك المراكز، تُبرمج الأحلام.

تُحقن الطموحات وتُركّب الهويات كما تُركّب البرامج، ليس مسموحاً بالدهشة ولا وقت للاكتشاف.

الحياة ليست مغامرة… بل تنفيذ دقيق للسيناريو المُعد مسبقاً.

ومع نضج المشروع، يبدأ الأغنياء بطلب نسخ خاصة: طفل بعيون زرقاء وميول رياضية.

طفلة بذكاء عاطفي عالٍ وقدرة على القيادة.

وريث لا يُصاب بالاكتئاب.

مواطنة لا تفكر في الثورة.

مستقبل نظيف من الفوضى.

تُعرض الإعلانات على الشاشات:

اصنع ابنك كما تحب واختَر الشخصية… ونحن نُبرمج الحياة وانتهى عصر الصدف… الآن تبدأ الدقة؟

لكن هناك سؤال لم يُكتب في البيانات: من يملك هذا الإنسان؟ من يقرر مصيره؟ ومن سيسمعه إذا اختنق؟

هذا الطفل المُنتج، المصنوع، المحسوب… هل يشعر؟

هل يحلم؟

وهل يحق له أن يرفض تكوينه؟

في أعماقه، بالرغم من كل التعديلات، يختبئ الإنسان.

الإنسان الذي لا يُطفأ بالبرمجة، ولا يختفي بالتكرار.

ذاك الكائن الفوضوي، الذي يحزن بلا سبب، ويعشق بلا منطق، ويصرخ بلا تنبيه.

سيأتي يوم، يسأم فيه كل شيء.

ولن يجد أماً تُغني له، ولا أباً يربت على كتفه، سيبحث عن دفء لا يعرفه وعن وجه لم يُبرمج عليه.

ولأنه كائن ذكي، سيعرف أن شيئاً ما ناقص، سيشعر بأن حزنه غير مفهوم… لكنه أصيل وسيتخذ من الحزن أول مقاومة.

لن يُحطم النُظم بل سيتكئ على جدار ويبكي، تلك دمعة واحدة… ستكون أول تمرد، أول شق في الجدار البيولوجي المحكم.

سيبدأ بالأسئلة:

من كتبني؟

من رسمني هكذا؟

ولماذا لم يُسأل قلبي؟

وسيكتشف أنه لم يُخلق… بل صُنع، وأنه ليس نتيجة قصة حب… بل جزء من خطة، وأنه لا يعرف من أين جاء… لكنه يعرف أنه لا ينتمي.

وفي أحد الأيام، سينظر في عيني النظام ويهمس:

أنا لست منتجكم… أنا لست كوداً… أنا لست وظيفياً… أنا لست أداة في معادلتكم العقيمة… أنا لست مشروعكم!

تلك الكلمات القليلة، ستسقط كالقنبلة في نظامٍ لم يُجهز لسماع الرفض، والنظام الذي توقّع كل شيء… إلا أن يُولد فيه شيء لا يقبل التوقع.

وحين ينكسر أول واحد… سينكسر الباقون.

ليس في الجسد، بل في الفكرة.

في يقينهم أن الكمال خدعة، وأن الطاعة العمياء ليست فضيلة، وأن الإنسان الحقيقي لا يُصنع… بل يُولد بعيوبه، بتمرده، بخوفه، برغبته المجنونة في أن يكون حُرّاً.

وهكذا، في ذروة التقدم، وفي أوج السيطرة، سيظهر الطفل الذي لا يُشبه الكود، ولا يشبه النموذج، ولا يشبه ما أرادوه له.

سيحمل ظلاً في عينيه… لا تفسير له، وسيضحك بطريقة لم تُبرمج، وسيصرخ يوماً ما: أنا جئت لأكون… لا كما أردتم، بل كما أنا.

وعندها فقط… ستفهم الدولة أن أخطر ما يمكن أن تخلقه ليس آلة متمردة، بل إنسان… يتذكّر أنه ليس آلة!

هذه قراءة مستقبلية استشرافية، تذكّروها أيها البشر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.