لم تكن علاقة العرب بـ"الآخر" علاقة خارجية ضمن مفهوم العلاقات الدولية فحسب، بل كانت دائماً علاقة محمّلة بالدلالات؛ فهي في الغالب علاقة استقواء أكثر منها سياسة وتحالف مصالح وفق "مشروع رؤية" يقوم على التكامل والندية والمنفعة.
ومع تشكّل النظام الإقليمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والخروج من حقبة الاستعمار لدى بعض الدول، لم تعد القوميات المحيطة بالعالم العربي (إيران وتركيا وإسرائيل) مجرد كتل جغرافية مجاورة، بل تحوّلت فيما بعد إلى فاعلين في المخيال السياسي العربي لدى البعض، تسكن تصوّراته وتؤثر في تفاعلاته.
ومن هنا تكمن المعضلة الكبرى، إذ تكمن في الكيفية التي أُعيد فيها تمثيل هذه القوميات داخل العقل العربي؛ فلم تعد إيران "خصمًا خارجيًا أو حتى منافسًا استراتيجيًا"، بل أصبحت قيمة مضافة ضمن تحالفات منظومة عقدية داخل الدولة نفسها ترى فيها مرجعيتها العقدية، أو ضمن تحالف اللحظة، ليس من أجل تبريد الصراعات ودعم الاستقرار الإقليمي، إنما لمحاولة صياغة معادلة توازن القوى بما يحقق له دفعًا معنويًا يُحسّن من خلالها مكانته التنافسية المأمولة في الداخل العربي. كذلك الحال، لم تعد تركيا "دولة قومية مستقلة"، بل تُستعاد كمرجعية إسلامية مفقودة في أذهان تيارات سياسية عربية. ولم تعد إسرائيل "عدوًا وجوديًا"، بل يُعاد تأهيلها بوصفها شريكًا في التحديث الجيوسياسي للانفصال عن إرث الصراع العربي لدى البعض ضمن استراتيجية التأثير والردع ضد الآخر.
هذه التحولات لا تعكس تغيرًا في موازين القوى فقط، بل تشير إلى أزمة عميقة في بنية العقل السياسي العربي، حيث لم يعد "الآخر" يقف على حدود الجغرافيا، بل يقطن داخل الذات العربية، ويتحرك عبر خطابها، ويُستخدم في معاركها الداخلية. وبالتالي، تكشف عن كيف يتخيل العربي "الآخر" لا كيف يتعامل معه فقط؛ إذًا "الآخر" هو مرآة مأزومة لـ"الذات" التي لم تتصالح مع تاريخها. لقد أصبح "الآخر" في كثير من السياقات "أداة للاستقواء الداخلي" وليس ضمن سياق علاقات طبيعية وفق مفهوم العلاقات الدولية بين الدول.
وهذا هو أخطر تحول في البنية السياسية والثقافية العربية، لأننا نعيد إنتاج تبعيتنا للآخر بأنفسنا تحت شعارات السيادة أو المصالح.
"عقدة الآخر" في العالم العربي ليست قدرًا، بل بنية مفهومية قابلة للتفكيك وإعادة التشكيل، بشرط الاعتراف بأننا نشارك في صناعته عبر الاستقواء به، والتحدث باسمه، و"مقاومته" بطريقة تعيد إنتاج هيمنته. وذلك لأنهم يعيدون توظيفه في صراعاتهم الداخلية.
إن العقل السياسي العربي لم يعد يتحرك من موقع المبادرة، بل يتموضع حول الآخر ويتشكل ضمن تفاعلات ردة فعله. ومن هنا تتولد ظاهرة "الاستقواء بالآخر".
التحالف مع "الآخر" ليس خطأً سياسيًا بحد ذاته، فهذه طبيعة العلاقات الدولية حيث تُبنى التحالفات ضمن تقدير المصالح، لكنه يصبح خطيرًا عندما يُبنى على استعارة مشروع الغير والذوبان فيه وتسهيل عبوره؛ فإن خرج من الباب في مكانٍ ما، يتم تسهيل دخوله مع الشباك في مكانٍ آخر للاستقواء به، وهو ما يترجم قصورًا استراتيجيًا حيث المخيال السياسي المضطرب يُجسّر له ذلك لتحقيق المكانة خارج أسس توازنات القوى وفق مراكمة مفاعيل أوراق القوة، غير أن الواقع يقول بأنه اختزال للسيادة نتيجة ردود أفعال ظرفية.