كنت قد توقفت في مقالي السابق من هذه السلسلة، وتحمل عنوان "المخفي والمسكوت عنه في الصراع العربي الإسرائيلي"، عند خطة غولدا مائير التي اقترحتها في 9 شباط (فبراير) 1971. وأؤكد أن هذه المبادرات والمقترحات الإسرائيلية لم تكن الوحيدة، بل جزءًا من سلسلة طويلة من محاولات التسوية.
اندلعت حرب السادس من تشرين الأول (أكتوبر) في يوم عيد الغفران اليهودي (يوم كيبور) عام 1973. وبعد أشهر من زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات التاريخية لإسرائيل في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، قدّم رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن خطة للحكم الذاتي. جاء هذا الاقتراح في خطاب أمام الكنيست، حيث اقترح تشكيل إدارة ذاتية لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة، تنتخب بموجبها الأغلبية العربية مجلسًا إداريًا من أحد عشر عضوًا. كان الهدف استبدال الحكم العسكري الإسرائيلي في هذه المناطق بإدارة ذاتية محلية.
رفض الجانب الفلسطيني هذا العرض، كما رفض المشاركة في مؤتمر مينا هاوس الذي انعقد في كانون الأول (ديسمبر) 1977 في فندق مينا هاوس بالجيزة. وكان المؤتمر يستهدف مناقشة القضايا النهائية، مثل القدس واللاجئين الفلسطينيين، تمهيدًا لمحادثات سلام مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين. وُجهت الدعوات إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ولبنان، وسوريا، والأردن، والاتحاد السوفيتي، إلا أنهم جميعًا قاطعوا المؤتمر.
في هذا السياق، أدلى السفير الفلسطيني السابق في مصر، سعيد كمال، بشهادة تاريخية خلال برنامج تلفزيوني، قال فيها: "كنت جالسًا مع السادات، و(ياسر) عرفات، وفاروق القدومي. قال السادات لعرفات: 'لا يهمني السوريون ولا العراقيون ولا الأردنيون. يهمني الفلسطينيون. تعالوا إلى المؤتمر، واجلسوا بجانبي، وارفعوا العلم الفلسطيني'". وأضاف كمال: "لقد كانت فرصة ذهبية ضاعت". وعندما سُئل عن السبب، أجاب بأن القرار الفلسطيني آنذاك كان مختطفًا من سوريا والاتحاد السوفيتي والعراق.
كلام سعيد كمال كان صحيحًا آنذاك، ولا يزال صالحًا حتى اليوم. آنذاك اختطفت تلك الدول القرار الفلسطيني، أما اليوم فالعلاقة بين إيران وحماس تقدم النموذج الأوضح لهذا الاختطاف. ومما يعزز هذا الطرح أن عرفات كان حاضرًا خلال خطاب السادات أمام البرلمان المصري في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، والذي أعلن فيه استعداده للذهاب إلى الكنيست. صفق عرفات بحرارة، فلماذا هاجمه لاحقًا؟
اتفاقيات كامب ديفيد وُقعت عام 1978 بين السادات وبيغن، برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وأثارت غضبًا عارمًا في العالم العربي. وُصف السادات بالخيانة، وجمدت الدول العربية علاقاتها مع مصر. وفي 31 آذار (مارس) 1979، بعد خمسة أيام من التصديق على معاهدة السلام التي وُقعت في 26 آذار، اجتمع القادة العرب (باستثناء مصر) في بغداد وقرروا طردها من جامعة الدول العربية. شنت جبهة الصمود والتصدي، بقيادة صدام حسين، وحافظ الأسد، ومعمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، حملة إعلامية شرسة ضد السادات، وبلغ الأمر أن سمت إيران أحد شوارع طهران باسم خالد الإسلامبولي، قاتل السادات.
ثم مضت السنوات وجرت تطورات كثيرة، وصولًا إلى توقيع اتفاقية أوسلو الأولى، المعروفة رسميًا باسم "إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت"، بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. جرت المفاوضات السرية في أوسلو عام 1993 ووقعت الاتفاقية في 13 أيلول (سبتمبر) 1993 في واشنطن، بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون. سمحت الاتفاقية بعودة ياسر عرفات إلى الأراضي الفلسطينية، ودخل أريحا وغزة في تموز (يوليو) 1994. وعندما سُئل عن صفقته مع إسرائيل، قال إن الأمر يشبه "صلح الحديبية"، ما كشف أن الاتفاق كان بالنسبة له مجرد هدنة مؤقتة، لا سلامًا دائمًا.
ثم جاء اتفاق أوسلو الثاني، وُقع في 28 أيلول (سبتمبر) 1995. لكنه لم يُحدث فرقًا كبيرًا على الأرض، نتيجة الهجمات الإرهابية التي شنتها جماعات مثل حماس، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
لم يؤد ياسر عرفات واجباته كرئيس للسلطة الفلسطينية، وأضاع فرصة تاريخية في قمة كامب ديفيد الثانية عام 2000، التي انعقدت بين 11 و25 تموز (يوليو) بمشاركة الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، وعرفات نفسه. انتهت القمة دون اتفاق، بسبب رفض عرفات لكل المقترحات، بالرغم من ما اعتبره كثيرون عرضًا سخياً من باراك، الذي سبق له أن اتخذ قرارًا مهمًا بإنهاء الوجود العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان في 24 أيار (مايو) 2000، تمهيدًا لإنجاح مفاوضات السلام.
بعد وفاة عرفات، رفض خلفه محمود عباس اقتراحًا متقدمًا قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت. صرّح أولمرت للـ BBC بأنه قدم عرضًا غير مسبوق، لكنه قوبل برفض فلسطيني تلقائي، دون نقاش جاد.
وإذا تطرقنا للأراضي العربية التي عادت، فكلها عادت بالسلام لا بالحرب. سيناء عادت إلى مصر بعد معاهدة السلام الموقعة في 26 آذار (مارس) 1979، بالرغم من أن الجيش المصري لم يكن يسيطر بعد الحرب إلا على نحو 16 ألف كيلومتر مربع شرق القناة، مقابل أكثر من 46 ألف كيلومتر مربع تحت سيطرة إسرائيل. تمت إعادة الأراضي على مراحل، ضمن جدول زمني محدد، وتحقق ذلك بالسلام، لا باستمرار الحرب.
وبالمثل، استعادت الأردن أراضيه في منطقتي الباقورة والغمر بموجب معاهدة وادي عربة الموقعة في 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1994.
ومن هنا، أتحدى من يسمي نفسه من "محور المقاومة"، الوريث الأيديولوجي لما كان يعرف بجبهة الصمود والتصدي، أن يشير إلى متر مربع واحد "حُرر بالحرب". بل إن نتائج الحروب، حين لم تفضِ إلى تسويات سلمية، كانت نكبات مستمرة.
كان طبيعيًا أن تنشط القوى اليمينية في إسرائيل في ظل الرفض الفلسطيني المزمن لأي عرض، خاصة مع صعود حماس وميثاقها الذي يدعو إلى محو إسرائيل من الوجود.
لكن، وللإنصاف، فإن معاهدتي السلام مع مصر والأردن، وكذلك اتفاقيات أبراهام، تمت جميعها في ظل حكومات إسرائيلية يمينية. وقّع مناحيم بيغن مع السادات، ووقّع نتنياهو اتفاقيات أبراهام، وكاد يوقع اتفاقًا تاريخيًا مع السعودية، لولا أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 الإرهابية، التي أجهضت تلك الفرصة.
إن الحل الوحيد هو السلام. المعركة اليوم بين قوى الدمار والتفتيت، ممثلة بإيران ووكلائها، وبين دول بدأت تدرك أن البديل عن السلام هو الخراب الشامل.
علينا أن نواجه "قوى المعدلات الصفرية" التي تقدّس العدم، بكل ما أوتينا من وعي وإرادة. تلك القوى تسعى لاغتيال المستقبل، باسم ماضٍ مشوّه.
أعلم أن هذه الحقائق قد تصدم البعض، لأنها تصطدم بجدار "سرديات الكراهية والعداء والهلاوس" المزروع في غدد الوعي العربي، لكنني على استعداد لمناظرة أي متخصص أو أكثر من أنصار الرأي الآخر في حلقة نقاشية تنظمها إيلاف أو إحدى القنوات السعودية.
ولن أجد أبلغ من مقولة مارتن لوثر كينغ أختم بها مقالي الأخير في هذه السلسلة: "أولئك الذين يحبون السلام عليهم أن يتعلموا التنظيم بكفاءة وفعالية، مثل أولئك الذين يحبون الحروب".