: آخر تحديث

من سيرث العرش الروسي في زمن لا يُورّث فيه الحكم… بل يُبرمج

10
8
7

في روسيا، لا يجري الحكم عبر صناديق الاقتراع وحدها، ولا تُصاغ السلطة في أروقة البرلمان ، بل تُنحت في الظلال، في دهاليز الأجهزة الأمنية، في همسات الولاء، وفي المعادلات المعقّدة بين مراكز القوة التي لا تظهر على الشاشات. وحين يُطرح سؤال من سيرث بوتين؟

فإن الإجابة لا تكون باسم، بل بمنطق ، من يمتلك مفاتيح الدولة العميقة؟ من يحفظ توازن الرعب بين الأوليغارشية، والجيش، والمخابرات؟ من لا يُخيف بوتين… ويُرضيه في الوقت ذاته؟ من يستطيع أن يكون مرآة له… دون أن يحاول تجاوزه؟

فلاديمير بوتين، الذي يحكم روسيا منذ ربع قرن، ليس رئيساً فحسب. لقد أصبح نموذجاً ، أسلوب حكم، جهاز تحكم مركزي للروح الروسية الجديدة، الممتزجة بالقومية، والأمن، واستعادة المجد السوفييتي بوجه جديد. لم يترك خلفه حزباً حقيقياً يحكم من بعده، ولا مؤسسات مستقلة قادرة على إنتاج زعيم. ترك شبكة، وعقداً غير مكتوب: من سيأتي بعدي، لن يُشبهني، لكنه سيخدمني… حتى وأنا في الظل.

الرجل الذي يتصدر الأحاديث الآن، بهدوء لا يُثير الشكوك، هو ديميتري باتروشيف، ابن نيكولاي باتروشيف، أحد أقرب رجالات بوتين، وأمين مجلس الأمن القومي الروسي، والعقل الأمني الاستراتيجي الذي يوصف أحياناً بأنه حارس دولة بوتين من الداخل..!

هذا الابن الصاعد، الذي يشغل اليوم منصب وزير الزراعة، قد يبدو بعيداً عن دوائر التأثير المباشر، لكن هذه المسافة جزء من الحيلة. في روسيا، حين تُسلّط الأضواء على أحد، يكون قد خرج من السباق. أما حين يتحرك أحدهم في الظل، بلا ضجيج، فاعلم أنه يُهيّأ ليحمل شيئاً لا يُقال… بعد.

ديميتري، خريج أكاديمية جهاز الأمن الفيدرالي، وذو سيرة مهنية تسير على نفس خُطى الزعيم: رجل أمن سابق، إداري فعّال، لا يُكثر الكلام، ولا يثير الجدل. عُيّن في سن مبكرة وزيراً ، وبدأ يكتسب ثقة بوتين كابنٍ محتمل للنظام، لا للعائلة فقط. ميزة ديميتري ليست في إنجازاته الزراعية، بل في أنه ليس تهديداً. لا يملك كاريزما مستقلة، ولا قاعدة جماهيرية، ولا طموحاً يُخيف الأب الروحي. لكنه يُجيد العمل بصمت، ويتقن الظهور حين يُطلب منه ذلك فقط. وهذا بالضبط ما يحتاجه بوتين.

بوتين، رغم استمراره في الحكم حتى 2036 نظريًا، يدرك بيولوجياً وتاريخياً أن النظام يجب أن يُعاد هيكلته قبل أن يُفاجأ بانهياره. فالمشهد العالمي يزداد ضغطاً، والداخل الروسي يمور بتحديات اقتصادية ومجتمعية عميقة. ولأن بوتين لا يثق في البدائل المفاجئة، فهو يعمل، على الأرجح، على هندسة انتقال ناعم، لا تُفقده تأثيره. أي انتقال لا يقوم على الانسحاب، بل على التوزيع الذكي للأدوار. وفي هذه الخطة، فإن شاباً مثل ديميتري يمكن أن يكون واجهة شابة، مطواعة، لكنه مدعوم بجهاز قديم لا يزال يُحكم قبضته على كل شيء.

الخطر الحقيقي على استقرار النظام بعد بوتين ليس المعارضة، بل الصراع بين الأجنحة الداخلية. الحرس القديم في المؤسسة الأمنية، وحيتان المال من الأوليغارشية، والتيار التكنوقراطي في الحكومة، كلهم ينتظرون إشارة من الكرملين. وكل تأخير في تحديد الوريث، يزيد من احتمالية الانقسام الصامت. ولهذا، فإن الترويج البطيء لشخصية مثل ديميتري يُشكّل حلاً وسطاً : هو مقبول لدى الأمن لأنه (ابن المؤسسة) ومُطمئن للماليين لأنه غير عدائي اقتصادياً ، ومقبول شعبيًاً لأنه (شاب غير متورط) 

لكن السؤال الأعمق ليس من هو ديميتري باتروشيف، بل: هل يمكن أن يتحول ظلّ بوتين إلى شمس جديدة؟ هل يملك ديميتري القدرة على تثبيت النظام، أم سيكون مجرد مرحلة انتقالية؟ هل سيتحول إلى نسخة باهتة تُستنزف بسرعة؟ أم سيُعيد اختراع نفسه من داخل النظام؟ التجربة الروسية لا تسير بخطوط مستقيمة. وما يبدو سكوناً، غالباً ما يُخفي زلازل سياسية هائلة. فبوتين نفسه جاء من الظل، من رئاسة جهاز الاستخبارات، ليصبح رجل روسيا الحديدي. وربما يُراد لديميتري أن يُعيد الحكاية… ولكن بنسخة أكثر نعومة، أكثر انضباطاً، وأكثر ارتباطاً بالعصر الرقمي.

بوتين لم يعد مجرد فرد، بل نظام قائم على توزيع الدهاء والقوة والخوف. ووريثه، أياً كان، لن يكون قادراً على ملء الفراغ كاملاً، بل على إدارة ما يُترك له من خيوط. ولأن بوتين لم يُنشئ آلية انتقال واضحة، فإن كل من سيأتي بعده سيبدأ من موقع الشك، لا من موقع القوة. ومن هنا، فإن اسم الوريث، مهما كان، سيبقى ظلاً… إلى أن يُثبت أنه يستطيع أن يخلق مركزاً جديداً للجاذبية.

في النهاية، روسيا لا تتغير بثورات، بل بتعديلات دقيقة في منطق القوة. ومهما كان اسم الوريث، فإنه سيبدأ كظل، ويمشي في ظلال، ويحكم تحت ظل رجل واحد… اسمه فلاديمير بوتين. الوريث ليس من يُختار، بل من يُسمح له أن يحكم تحت عيون القيصر… حتى وإن غاب جسده. روسيا بعد بوتين، لن تكون روسيا بلا بوتين. بل ستكون روسيا التي يحكمها رجل جديد… بطريقة قديمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.