في عالم يشهد تحولات متسارعة على المستويات السياسية والاقتصادية والتقنية، لم تعد القوة العسكرية أو الهيمنة الاقتصادية كفيلة وحدها بضمان النفوذ أو الحفاظ على المصالح. لقد برزت في العقود الأخيرة القوة الناعمة كأداة استراتيجية لا تقل أهمية عن القوة الصلبة، بل تتفوق عليها في كثير من الأحيان من حيث التأثير طويل المدى والاستدامة؛ فالقوة الناعمة لا تُمارَس بالإكراه أو التهديد، بل تقوم على الجاذبية الثقافية، والتأثير القيمي، والسياسات الذكية التي تجعل الآخرين ينجذبون طوعًا إلى نموذج الدولة ومصالحها. لقد باتت اليوم من أهم أدوات الدبلوماسية الحديثة، ووسيلة فعّالة لبناء الصورة الذهنية الإيجابية للدول وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية.
(القوة الناعمة) هي أداة التأثير غير المرئية، وهو مفهوم صاغه المفكر السياسي الأمريكي جوزيف ناي في أواخر القرن العشرين. عرّف ناي القوة الناعمة بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية والإقناع، بدلاً من الإرغام أو دفع المال".
ويختلف هذا المفهوم عن القوة الصلبة، التي تعتمد على الوسائل العسكرية أو الاقتصادية المباشرة. وقد صاغ ناي هذا المفهوم في أواخر القرن العشرين، في محاولة لفهم كيفية تمكن بعض الدول من تحقيق مصالحها دون اللجوء إلى القوة أو التهديد، بل عبر كسب القلوب والعقول. ويؤكد ناي أن "القوة الناعمة لا تعني التنازل، بل الذكاء في كسب النفوذ دون صدام"، وهو ما يجعلها أداة فعالة ضمن استراتيجيات الدبلوماسية الحديثة.
في هذا السياق، تميّزت المملكة العربية السعودية في مجال القوة الناعمة، حيث وظّفت أدواتها بأسلوب حضاري، سلمي، وإيجابي؛ وفي المستقبل ستشهد المرحلة المقبلة متغيرات جديدة تنسجم مع طبيعة العصر وتحولاته، منذ الإعلان عن رؤية المملكة 2030، حدثت تغيّرات جوهرية في حقوق المرأة، وتعديل في نظام الأحوال الشخصية، وإعادة تنظيم لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بدأت ملامح ثقافة الحياة تُبث في المجتمع المحلي، كما ساهمت الرؤية في دعم الفنون، والموسيقى، والسينما، والمهرجانات الثقافية، وهو ما أعاد تعريف المشهد الاجتماعي المحلي، وفتح المجال أمام مجتمع أكثر انفتاحًا وتنوعًا، ولم تَغِب الساحة المحلية عن هذا الحراك؛ إذ برزت منصّاتٌ وطنية تُضاهي نظيراتها العالمية،ومن ذلك ما تمثّله منصاتٌ مثل ‘سعوديبيديا’ و’سوليوود’، وجوائز هيئة الترفيه، واستضافة الفعاليات الرياضية العالمية، في تجسيدٍ واعٍ وممنهج لأدوات القوة الناعمة، التي ترسم صورة الوطن بحيويةٍ وعمقٍ على الساحة الدولية، والتي تُعبّر عن الهوية وتُسهم في رسم الصورة الذهنية للمملكة، فكلمات الشكر لا تفي سموّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حقّه، فقد أحدث بحنكته وبُعد رؤيته نقلةً نوعية في مسار التنمية والتحديث، واضعًا المملكة على خريطة العالم بوجهٍ جديد يعكس طموح شبابها وثراء إرثها، ومُرسّخًا نهج التغيير الإيجابي بروحٍ عصرية لا تنفصل عن الجذور.
ومقابل ذلك بشكل عام، إنّ ما يُؤرّقني ويُثقل خاطري هو تسخير أدوات القوة الناعمة في بثّ الأفكار المتطرّفة، حيث تُقدَّم في نسقٍ خادع من الإقناع والتأثير، حتى يغدو التطرّفُ مغلّفًا بثوب التنوير، وهو ما نلمسه في بعض البرامج الحوارية المعاصرة، وعلى رأسها بعض البودكاستات التي تتوشّح مسوح الوعي وهي تُضمر الغلوّ والقومية الواهية، لم يعُد الإرهاب يطلّ بوجهه الكالح فحسب، بل تعلّم أن يتزيّا بلبوسٍ ناعم، يتسلّل إلى العقول لا بالسلاح، بل بالكلمة المسمومة والفكرة المعسولة، لقد غيّر الخطاب الإخواني والصحوي أدواته، فانتقل من منابر التحريض إلى خوارزميات التأثير، مستثمرًا وسائل التواصل لبثّ رسائلَ مموّهة، ظاهرُها الحِكمة وباطنُها الغلوّ، غير أنّ الثعابين، وإن بدّلت جلودها، تبقى ثعابين.