أرجو من القارئ العزيز ألا يعتبر هذا الطرح طرحًا علميًا وإن كانت المعلومات الواردة في سياقه مدققة قدر الإمكان، لكنه اجتهاد فكري متواضع يبحث في تغيّر سلوك البشر عبر مراحل حياتهم، وكيف يتحكم هذا المركب السحري في مسار الإنسان (الذكر) وتوجهاته في كل أطوار عمره: مراهقًا وشابًا وشيخًا وكهلًا. والتستوستيرون هو المسؤول الأول، مع قرينه الأنثوي (البروجستيرون)، عن استمرار الجنس البشري وإعمار الكون وتكوين الأسرة والعيش في مجتمعات.
ولأنه لم تكن ثمّة ثقافة في الشرق كله تكشف تضاريس الولوج إلى هذا المنعطف الخطر في رحلة حياة الإنسان، لذا كانت الفطرة العفوية غير المنضبطة هي التي كانت تسوقنا أحيانًا مندفعين بغير معرفة أو إدراك، وأحايين كثيرة كانت فطرة غريزية منفلتة ومندفعة وغاشمة وطائشة مسببة جروحًا نفسية، وأحيانًا تكون غائرة وتصنع ندوبًا وكدمات في الأرواح والنفوس وفي كل حياة الإنسان.
وعندما ينضب معين (التستوستيرون) وتجف منابعه، تظهر الحياة بلون جديد هادئ مستقر متزن صاف. فالرغبة والطاقة الجامحة التي يولدهما هذا الهرمون السحري في الإنسان أحيانًا تتسبب في رؤى ضبابية مشوشة واختلال في موازين الانضباط الأخلاقي للأشخاص والمجتمعات. لذلك تشترط بعض الوظائف الحساسة أو المناصب القيادية الهامة حدًا أدنى للسن لشاغليها، والمقصود هو ضمان عبور الإنسان مرحلة انهمار الهرمون المحفّز للغرائز إلى مرحلة الاستقرار النفسي والاتزان الاجتماعي.
وفي جدة الأيام، وفي بواكير أيام سريانه الأولى في جسدي الغض، لا زلت أذكر ماذا حل بي. فقد كنت قبلها، بشهادة الجميع، فتى وديع بريء الملامح، هادئ الطباع، خجول، متفوّق. لكنَّ انقلابًا أصاب شخصيتي بين عشية وضحاها: نما شاربي، واخْشوشن صوتي، وتبدلت ملامحي، وتغيّرت نظرة البراءة الوديعة إلى رفيقات الدرس واللعب، واصطبغت دون وعي بلون اشتهاء مستتر ورغبة مختبئة، وخصوصًا في مجتمعاتنا المنغلقة. كما تدنى مستواي التعليمي، وأصابتني خيلاء كاذبة، وصرت متمردًا سريع الانفعال مع الجميع. وبعد أن كنت أنيقًا في غير تأنق، أصبح مظهري هو اهتمامي الأول: تأنق مبالغ فيه، وأحلام طائشة، وأوهام الحب الأول، وحالة من التيه العاطفي المستدام. وفي العشرين، نسيت حبي الأول، وتزوجت وأنا في الرابعة والعشرين.
والتستوستيرون هو محرّك الرغبة والقدرة في مراحل الشباب، لكنَّ القدرة تنحسر تدريجيًا مع الزمن وضغوط الحياة. لكن بقايا المركب السحري تظل تسري، ومعها ظلال رغبة عاجزة تثير مشاعر مضطربة، تلقي بظلالها على مسار حياة الإنسان وعلاقاته واستقراره النفسي والجسدي والاجتماعي. ومن ثم يسود فتور عاطفي، وأحيانًا يتطوّر إلى نفور بين شركاء الحياة، وتبدأ مشاحنات لأسباب وهمية، وأحيانًا تكون النهايات مأساوية.
هذا هو التستوستيرون: هرمون المتعة والتناسل، هرمون إحلال وتجديد واستمرار الجنس البشري وإعمار الكون. الهرمون الذي وُضعت من أجله، هو وحده ولا غيره، ترسانة قوانين الانضباط الأخلاقي والتشريعات الوقائية. وفي ماضٍ ليس ببعيد، كانوا يزيلون غدد إفرازه من العبيد والمملوكين (الإخصاء) لضمان غلق المنبع، ويصبح الذكر شخصًا آمنًا مسموحًا له بالاختلاط دون خشية، فلم يعد ذكرًا بالمعنى البيولوجي، أصبح شبه ذكر. وهذه هي معضلة التستوستيرون.