في رحيلٍ يشبه انسحاب الضوء الأخير من نافذة مساء دائم، غاب الدكتور هيثم الزبيدي، رئيس تحرير صحيفة "العرب"، ليترك وراءه فراغاً لا يُقاس بمساحة مكتبه في لندن، بل باتساع معنى الكلمة التي لم يكن يرى فيها مجرد حبر على ورق، بل ميثاق حياة، ورسالة أخلاق.
ما أصعب أن تكتب عن رجل لم يكن يوماً مجرد "مدير"، أو "محرر"، بل كان حالةً إنسانية ومهنية ومزاجاً أخلاقياً في زمن باتت فيه الصحافة تُدار كما تُدار الشركات العقارية، بمعايير العائد والتدوير. لم يكن الدكتور الزبيدي مجرد رُبّانٍ قاد سفينة "العرب" في بحر رقميّ هائج، بل كان هو البحر والمرسى والاتجاه. رجل وُلِد في بلاط الصحافة من دون أن يتخرج في مدارسها، لكنه تجاوزها بفطرته، مثل شاعر لم يقرأ العروض لكنه أنشد القصيدة. وكنت تواصلت معه مراراً، وفي كل مرة، كان يعتذر عن الرد على رسائلي بسبب انشغاله وإشرافه المباشر على ما يُنشر في الصحيفة. وفي إحدى المرات، أرسلت إليه رسالة أطلب فيها نشر ما أرسلته إلى الصحيفة، فرد عليَّ في اليوم التالي، بكل تواضع مؤكداً أن أبواب الصحيفة مفتوحة لكل مجتهد، ولكل مقال جيد. حديثه أسعدني، وبعدها أرسلت عدداً من المواد التي كانت تجد طريقها إلى النشر كما هي.
وقد أرسل إليَّ في إحدى المرات يشكرني على هذا الاجتهاد، وعلى ما أقدمه من مواد كانت في الواقع تلقى الترحيب من قامة كبيرة افتقدناها، بعد أن بثَّ فينا الرغبة في المزيد من الإنتاج، والدفع في الاتجاه الصحيح، واختيار الطريق السليم، لا سيما أن أبواب النشر مفتوحة ما دامت تستوفي مقوماتها.
ولد هيثم الزبيدي في العراق، وفي داخله روح لم تتخلّ يوماً عن جذورها، حتى وهو يدفن في لندن، حيث عاش وكتب وخاض معاركه. لم يكن ابن السلطة، وإن كانت سيرة والده السياسي محمد حمزة الزبيدي جزءاً من الرواية العامة. هيثم، كما يعرفه مَن عمل معه، اختار أن يصوغ نفسه بذاته، بعيداً عن أي ظل، وكان عنيداً في صياغة هذه الذات التي احترفت أن تكون واضحة كفكرة صلبة، لكنها رقيقة كضمير حيّ.
حين التحق بالصحافة، لم يكن الأمر خياراً مهنياً صرفاً. كان تخلياً نبيلاً عن مستقبل مضمون في مجالات أكثر استقراراً. تخلى عن معطف الهندسة النووية – التي درسها في "إمبريال كوليدج" بلندن – ليرتدي بذلة الصحفي الميداني، ثم التحريري، ثم المفكّر الذي يقود الجريدة لا فقط بالسياسات، بل بالرؤية والحدس والإحساس بالتفاصيل الصغيرة، من علامات الترقيم إلى دقة الصور.
في "العرب"، الصحيفة التي أسسها أحمد الصالحين الهوني في المنفى الليبي، وجد الزبيدي نفسه، ووجدت الصحيفة مَن يمدّ يد الإنقاذ في زمن تكاد فيه الصحافة الورقية تختفي مثل رائحة المطر في صحراء الإعلام الرقمي. لم يكن زمن الزبيدي زمن الترف، بل كان وقت الأزمات. ومع ذلك، قاوم. لم يقاوم بقبضة مشدودة، بل بعقل مرن، يعرفُ متى يُعاند، ومتى يحتال على الزمن. وحين اجتمعت الجائحة على الناس، وكان البعض ينسحب نحو الحياد، بقي الزبيدي في الطليعة، لا يكتب الأخبار فقط، بل يعيشها.
حين تعصف الحرائق بمكاتب التحرير، كانت يد هيثم تطفئ النار دون أن تطفئ روح الكاتب. أدرك جيداً أن المحرر الجيد ليس من يصحّح فقط، بل من يربّي النصوص كما يربّي أب أبناءه. ولذلك، لم يكن غريباً أن يصبح بعض الإيميلات المتبادلة معه دروساً كاملة في فن الكتابة، لا تخلو من النقد الشجاع، لكنها محاطة بدفءٍ أبوي، كما لو أنه يُمسك القلم معك.
أراد هيثم أن يُبقي "العرب" مساحة لحريةٍ لا تقف عند أي "تابو". كان يفتح الأبواب للمقال المختلف، وينبّه إلى زلات اللغة، لكنه لا يغلق الأبواب. سمح للنصوص أن تخطئ، فقط ليصححها. وكان يفرح حين ينجح أحدهم، لا لأنه أنجبه صحافياً، بل لأنه آمن به ككاتب إنسان.
لا تحتاج إلى الكثير من الوقت لتدرك أن الرجل لم يكن مديراً فحسب، بل مربياً من طراز فريد. في شهادات زملائه ومحرريه، تظهر صورته كمن يكسر الحواجز لا يبنيها، يفتح مكتبه للمتدرب كما للكاتب المخضرم، ويطلب منك أن تجتهد، لا أن تُجيد التملّق. حين كان الصحفي الشاب يحتاج لعملية جراحية لعينيه، لم يتردد الزبيدي في تحمّل تكاليفها كاملة. لم يفعلها ليستعرض، بل لأنه يؤمن أن الموهبة لا تكتمل من دون صحة الجسد، وكرامة الإنسان.
كان يرى في محرريه مشاريعَ ينبغي رعايتها، لا عبيداً ينبغي استغلالهم. في بيئة صحفية غالباً ما تنتمي إلى عقلية الكتمان والتسلّط، كان الزبيدي يفكّك هذه المركزية ببطء، بزرع الثقة، والدفع نحو المغامرة المهنية، بل ودفعهم للرحيل إن كان في ذلك مصلحة لتطوّرهم. لم يعتبر مغادرتك له خيانة، بل دليلاً على أن تجربته نجحت.
أن تكون رئيس تحرير في زمن "ما بعد الحقيقة" ليس بالأمر السهل. لكن الزبيدي لم يكن سجين الحدث. حين كانت الصحف تتسابق على تكرار الخبر، كان يرفض أن يتصدر العنوان نفسه الصفحة الرئيسية يومين متتاليين. قال مرة: "علينا أن نقول ما لا يُقال... لا أن نعيد ما يُعاد". كان يستخرج من تحت الرماد جمرة أسئلة، وينبّه إلى الزوايا المخفية، كما لو أن كل جملة لديه لا تُكتب إلا بعد امتحان للنية والوزن والضرورة.
لكنه لم يكن ثورياً أجوف، بل عروبياً حقيقياً بلا أيديولوجيا، ناقداً من موقع البناء، لا الهدم، مُدافعاً عن فلسطين، محاوراً للغرب، واعياً بأن العالم تغيّر، وأن العرب ليسوا وحدهم في هذا الكون، لكنهم أيضاً ليسوا هامشاً فيه.
قال أحدهم: "كان شكسبير محرّراً قبل أن يكون كاتباً". وربما هذا هو الزبيدي. لم يكن يؤمن بأنَّ النصوص آلهة، بل تمر قابلة للتعديل. أعاد صياغة الكثير، صفع البعض بلطف، وأنقذ آخرين من السقوط في الاستعارات الزائدة. علمنا أن النقطة نهاية، لا مجرد علامة. وأن الفاصلة ليست لحظة تأنّق، بل تمهيد لمعنى قادم. ألحّ على وضوح الأفكار لا على بهرجة الأسلوب، ودرّب الكتاب على الحرف كما يدرب الموسيقي أصابعه على العزف.
في مراسلاته، دروس لغوية، وأخلاقيات تحرير، وضحكات مكتومة، وملاحظات تشبه السكاكين، لكنها تقطع الحبر لا الجلد. كان ناقداً بلا ضجيج، دقيقاً في الملاحظة، ويعرف كيف يجعل الكاتب يبتسم وهو يُعدّل نصه.
هيثم الزبيدي لم يكن ظاهرة مهنية فقط. بل كان ظاهرة إنسانية. جسدٌ أنهكه المرض، لكنّه قاومه بنفس الصمت الذي واجه به أعباء الصحافة. لم يشتكِ. لم ينسحب. لم يتاجر بألمه. بقي كما هو حتى آخر لحظة: ذلك الحاضر المتوارٍ خلف نصوص الآخرين.
في غيابه، لا نشعر أن رجلاً رحل، بل زمناً بكامله. زمن الصدق، والوفاء، واللغة الدقيقة، والاحترام غير المشروط للموهبة. ترك وراءه صحيفة، نعم، لكنها كانت امتداداً له. من هندسة الذرّة إلى هندسة الكلمة، كان مشغولاً ببناء الشيء الوحيد الذي لا ينهار بسهولة: الثقة.
لا تُكتب النهايات في سيرة كهيثم الزبيدي. لأن ما فعله لم يكن فقط مهنة، بل إرثاً. لم تكن الصحافة بالنسبة إليه عملاً يومياً، بل فعل حب دائم. كان يعرف أن الصحيفة هي وطن الذين فقدوا أوطانهم، وأن الكلمة هي آخر الحصون في زمن الانهيارات.
نحن الذين عملنا معه أو قرأنا له أو قرأنا من خلاله، لسنا نرثيه، بل نعده أننا سنكمل. سنواصل الكتابة التي لا تُستعرض، والنقد الذي لا يُجامل، والإنسانية التي لا تُعلن. سنحاول، ولو بخجل، أن نكون تلاميذ جديرين برجلٍ عاش كما يليق بالشجعان: بصمت، بكرامة، وبقلب يُنير الآخرين.
رحم الله الدكتور هيثم الزبيدي الذي نعتز ونفاخر به... كنت النص حين تعب الجميع من البلاغة.