: آخر تحديث
هاشتاك الناس

غزة آخر الأخلاق

10
9
9

مرحبًا بكم في غزة، المعرض المفتوح للموت المجاني، والدروس الحية في "انقراض الضمير الإنساني". هنا، لا يتم قصف الحجر فحسب؛ بل يُهاجم المعنى، وتُدمر اللغة، وتُهدم القيم. في هذا المكان، لا تموت الأجساد وحدها؛ بل تموت فكرة الإنسانية.

غزة ليست مجرد مدينة؛ بل هي فاجعة تسير على قدمين، تتعرض للقصف على مدار الساعة وكأنها ورشة لإعادة تدوير الموت العربي؛ الأطفال يُنتشَلون كزهور ذابلة من تحت الأنقاض، ويرحلون في صمت حزين.

طفلة تحتضن قطتها، والدموع تنهمر من عينَيِ الحيوان وكأنها آخر ما تبقى من مروءة في هذا الكون القاسي. أمةٌ -بأكملها- خجلت القطة من صمتها؛ بينما غابت رجولة رجالها تحت أنقاض التصفيق والرفض. ومَن أراد أن يرى وجهه الحقيقي؛ فلينظر في مرآة غزة؛ لكنه يجب أن يكون مستعدًا لما ستراه عيناه.

تحتضن الأمهات بقايا أبنائهن في أكياس بلاستيكية؛ بينما تنهار المستشفيات، ويُدفن الناس بلا تواريخ ميلاد ولا أسماء. ويرجع السبب في ذلك إلى أننا نعيش في زمن أزمة أخلاقية كونية، وفي مقبرة أخلاق جماعية؛ حيث اختُطف الضمير البشري، وتمت تصفيته في سراديب الدبلوماسية.

في غزة، لم تَعُد المستشفيات أماكنَ للعلاج؛ بل أصبحت مراكزَ للتعرف على الجثث، وصالات انتظارٍ للنازحين، وغرفَ عمليات تُضاء بشموع الصبر. الأطباء هناك ليسوا مجرد بشر؛ بل هم ملائكة مقاتلون بلا أجنحة، يُجرون العمليات الجراحية بأدوات المطبخ، ويُخففون الألم بكلمات الصبر، ويُخيطون الجراح بخيوط القهر. أما المدارس، فباتت تُخرج شهداء أكثر مما تُخرج طُلابًا، وتمنح شهادات وفاة بدلاً من شهادات التخرج.

في غزة، الجوع ليس مجرد حالة طارئة؛ بل هو هوية وجزء من الحياة اليومية؛ حيث يُعد مواطنًا دائمًا، له مقعده المحجوز على كل مائدة. أما "المساعدات الإنسانية"، فهي كفيلم عبثي طويل، تدخل فيه الشاحنات كأنها هدايا عيد الميلاد، محملة برسائل العطف من أوروبا. ويخرج من هذه الشاحنات كيسُ دقيقٍ واحد لكل مائة جائع، مع الإشارة إلى أن إسرائيل قد وافقت -مؤقتًا- على عدم موت الجميع في اليوم نفسه!!

فالغرب المتطور -ويا له من ممثل بارع!- يُجيد دور المدافع عن حقوق الإنسان؛ لكنه يُسلم مفاتيح الموت للاحتلال. يضع قُنبلةً في يد ومشروع قرارٍ لوقف النار في اليد الأخرى، ثم يبتسمُ بوقار، ويقول: "نحن قلقون للغاية"!

إن العالم لا يتواطأ مع القاتل -فحسب-؛ بل هو القاتل نفسه، يرتدي بدلةً رسمية، ويتحدث بلغة القانون الدولي، ويحمل "حقوق الإنسان" كرمزٍ زائفٍ على كاهله، ثم ينزعها خلسة قبل أن يُوقِّع صفقة سلاح جديدة.

أصبحت كل أمنياتنا أن نسكن الأرض تحت ظلال (براءة الحيوان)؛ أن تحكمنا القطط بحكمتها الصامتة، وتنشرَ في قلوبنا دفءَ الهدوء والنقاء، وأن تفيض الكلاب علينا بحبها الصادق، وتعلمنا معنى الوفاء!! دعوا الغابة تتسلم مقاليد حكم العالم، عسى أن ننجوَ من أنياب الإنسان، ونلجأ إلى أحضان الوحوش الأكثر رقةً وإنصافًا ورحمة ووفاء.

أما نتنياهو، فهو قاتلٌ محترف؛ لكنه ليس وحده. نعم، هو مَن يضغط على الزناد؛ لكن مَن يصنع له الرصاص؟ مَن يبرر له الجريمة؟ مَن يمنحه غطاءً دوليًا وقُبلةً على جبين الوحشية؟

نتنياهو لا يقتل بجهل؛ بل بدهاء!!، فهو يُدرك أن الدم الفلسطيني هو جواز مروره إلى داخل السياسة الإسرائيلية المتوحشة، وأن كل صاروخ يسقط في غزة يزيده نقاطًا في استطلاعات الناخبين.

هناك أيضًا مَن يقاتل؛ لكنه ليس بريئًا من الدماء والخراب، ليس لأنه يقاوم –فالمقاومة شرف–؛ بل لأنه أفسد شرفها. وأفقدها حكمتها الإنسانية. يدخل حروبًا يعلم أنها طويلة، تحتاج إلى حكمة التقدير والتوقيت. فقط يريد أن يبقى!!

أما العرب -وآهٍ يا أمة العرب-، فهم غارقون في نُعاس إستراتيجي طويل، يشترون "قضية فلسطين" كما تُشترى التحف، ويعرضونها في صالون الفخر الزائف، تحت إضاءة خافتة من النسيان.

والزعماء العرب، لا أحد يجرؤ على تسمية القتل قتلاً، ولا المجزرة مجزرة، ولا الخيانة خيانة. الجميع يتلفَّظ بالكلمات بحذر مستفز للشعوب، كأن الحقيقة قنبلة موقوتة، فربما يغضب السفير، وربما تُؤجَّل صفقة الغاز، وربما تُلغى دعوة العشاء في السفارة. الجميع خائفون من غضب الممول، أو من تجاعيد وجه السفراء.

ها نحن هنا، في الركن المُظلم من التاريخ، نشهد نهاية العالم، لا بانفجارٍ نووي؛ بل بانفجارٍ أخلاقي. فغزة لا تموت من القصف فقط؛ بل من قذارة العالم. لا أحد بريء؛ لا مَن يصمت، ولا مَن يساوي بين الجلاد والضحية، ولا مَن يتحدث عن "المفاوضات" وكأنها تُعادل بين الرصاصة والرأس.

غزة اليوم... لا تطلب نصرتكم؛ بل تطلب فقط ألا تكذبوا عليها. وإن لم تستطيعوا إنقاذها؛ فلا تكونوا شركاءَ في قتلها. فغزة لا تموت من الصواريخ فقط؛ بل من خيانة القريب، ونفاق البعيد، وصمت الذين كان من المفترض أن يكونوا بشرًا.

لا تحتاج غزة إلى شفقة، ولا إلى دموع في عيونٍ وقحة!! لا تنتظر بياناتكم، ولا أغانيكم، ولا مؤتمراتكم الطارئة، ولا دعواتكم إلى "التهدئة". هي بحاجة فقط إلى أن تستيقظوا... لا لتُنجدوها؛ بل لتتوقفوا عن المشاركة في الجريمة. كما تنتظر أن تستحي البشرية من دموعها.

هي مدينة قدرها أن تموت مرتين: مرةً بسبب الصواريخ، ومرةً بسبب صمت العالم؛ لكنها تُصر على العودة من تحت الركام، تمسح دماءها، وتقول: "أنا حية... رغم أنفكم جميعًا، لم أمت... بل أنتم مَن مات!".

في النهاية، غزة لا تسقط، لأن العالم سقط قبلها، لأن مَن يعيش تحت الأنقاض؛ لا يُخشى عليه من السقوط. هي لا تحتضر وحدها؛ بل العالم كله هو مَن فقد الأخلاق والحياة. عالمٌ مات ضميره، واستمر في الدوران كأن شيئًا لم يكن!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.