: آخر تحديث

هل سرقت كورونا أعمارنا أم أيقظتنا من حلم طويل؟

7
7
6

لم يكن 2020 مجرد رقم في تقويم، بل نقطة انهيار سرية في النسيج الزمني، كأن العالم اصطدم فجأة بجدار زجاجي لم يكن يراه!

منذ ذلك اليوم، تغير الزمن… لا في حركته، بل في شعورنا به، توقفنا عن العيش، وبدأنا بالعدّ ولم نعد نعرف إن كانت أيامنا تتقدم أم تتكرر، وهل نحن نهرول إلى الأمام، أم نُجر إلى الخلف بخيط غير مرئيّ.

هكذا وُلدت ما بات البعض يسميه متلازمة الوقت المسروق.

لكن هل يمكن للوقت أن يُسرق؟ أهو مال نُسلبه؟ أم ذكريات نُحرم منها؟ أم أننا ببساطة، وعينا للمرة الأولى أن ما كنا نحياه… لم يكن حياة بل عادة؟

الجائحة، كما في الأساطير، لم تكن مرضاً فقط، بل بوابة زمنية سحبتنا من تدفقنا المعتاد، وجعلتنا نقف في منتصف الطريق، نتأمل إلى أين كنا نذهب دون أن نعرف لماذا؟

العجيب أن العالم لم يتوقف… بل تسارع. التكنولوجيا قفزت، الذكاء الاصطناعي زأر، والاقتصادات تعثرت ثم انطلقت، لكن الروح البشرية (تلك التي لا نراها) كانت في مكان آخر، كأنها انفصلت عن الجسد، تراقب من خلف زجاج معتم كيف يُعاد تشكيل الزمن.

هناك من عاش سنتين في قلق، وآخر في عزلة، وثالث في روتين متكرر جعل من الأيام قالباً صلباً لا يُكسر. ولكن الأخطر، هو من لم يشعر بشيء، كأن الزمن عبره دون أن يترك علامة. وهنا تبدأ الفلسفة. فالوقت، كما يقول هايدغر، ليس ما نملكه، بل ما نكونه. ومن يضيع وقته، لا يفقد شيئاً بل يفقد نفسه.

إذا كانت الجائحة سرقت الزمن، فربما لم تسرقه من الجميع. بل انتزعت قناع الوهم، وفضحت من كان يركض بلا هدف، ومن كان يحيا بالتقسيط المؤجل. هؤلاء شعروا بالصدمة أكثر من غيرهم، لأن الفكرة التي بنوا عليها مفهوم الزمن سقطت فجأة: أن هناك دوماً (غداً) يمكن تدارك كل شيء فيه. وفجأة، لم يعد هناك غدٌ مضمون، فانهار الإدراك.

الزمن المسروق هو إحساس جمعيّ بعدم التقدم، لكنه في جوهره ليس توقفاً عن الحركة، بل عن المعنى. لم نعد نعلم لماذا نستيقظ، ولا إلى أين نمضي. تحولت الأيام إلى وحدات قياس فارغة، وصار الأسبوع متتالية من (نفس الشيء) لا فارق بين السبت والثلاثاء. هذه ليست أعراض مرض، بل تشوّه في بنية الشعور الزمني، خلق فجوة بين (ما يحدث) و(ما نحسّه)؟

هنا يلعب الخيال دوره. فكر في الزمن كخيط حريري مشدود، وكلما شددته أكثر، ازداد لمعاناً، لكنه أيضاً ازداد هشاشة. ونحن الذين شددناه حتى انقطع، اعتقدنا أن التكنولوجيا ستنقذنا، لكنها زادت الطين بلّة. الاجتماعات الافتراضية، التعليم عن بعد، وحتى الجنازات الرقمية، كلها أعادت صياغة الزمن، وجعلته أكثر حضوراً من أي وقت مضى، لكنه أيضاً أكثر تجريداً، كأنه ظلّ الزمن لا الزمن نفسه.

في هذه المتاهة، ثمة من استفاق. وجد في الانقطاع هدية خفية: أن يتأمل. أن يواجه ذاته دون أقنعة، أن يعرف من يحب فعلاً، ومن كان مجرد صدفة يومية. أدرك أن الزمن لا يُقاس بعدد الساعات، بل بكثافة الشعور. وأن لحظة حقيقية واحدة – مع ابن، أو أم، أو مع الذات في سكونها – تساوي شهراً من الثرثرة الفارغة والمناسبات المكررة.

والسؤال الذي يرفض أن يرحل هو: هل أعادت كورونا ترتيب الزمن أم فضحته؟ هل سرقت سنواتنا أم كشفت أنها كانت مسروقة أصلاً؟
حين تتأمل هذا السؤال، قد تصل إلى نتيجة أكثر رعباً: أن العالم قبل الجائحة كان يخدعنا بإتقان، وأن العجلة التي كنا نركض داخلها كالهامستر، لم تكن تقربنا من أي شيء، بل تبقينا في نفس النقطة… بينما نظن أننا نُنجز.

اليوم، حين نحاول العودة إلى (ما قبل الجائحة) نصطدم بسؤال وجودي: هل هناك ما يُمكن العودة إليه؟ هل الماضي الذي نحِنّ له كان حقيقياً؟ أم مجرد روتين نُسجت حوله أكذوبة الطمأنينة؟ إننا لا نشتاق لما كان، بل لما كنا نظن أنه كان.

في أعماقنا، نحن لسنا غاضبين من الفيروس… بل من الفكرة التي سقطت بسببه: أن الحياة تحت السيطرة، وأن الوقت ملكنا، وأن الغد نسخة محسنة من اليوم. كل ذلك تلاشى، وتركنا مع حقيقة مجردة: الزمن ليس خطاً مستقيماً… بل كائن هلامي، يتغير بإحساسك، يتباطأ إن كنت خائفاً، ويتسارع إن كنت مستمتعاً، وربما يتوقف إن فقدت المعنى.

إن كنت تشعر بأن الزمن قد سُرق منك، فتوقف لحظة، لا لتسترده… بل لتفهمه. ما سُرق حقاً ليس الوقت، بل إحساسك به. وما ضاع ليس الساعات، بل طريقتك في ملئها. والجائحة لم تكن لصاً، بل مرآة. وأنت الآن، إما أن تُغمض عينيك لتعود للنوم، أو تنظر جيداً وتبدأ أخيراً… في العيش.

الزمن المخدوع لم يكن في الجائحة، بل فينا. وكورونا لم تسرق أعمارنا… بل حررتنا من وهم أننا نعيشها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.