يُعدّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من أعقد الصراعات السياسية في العالم المعاصر، وقد مضت عليه عقود دون أن تُرسم له نهاية واضحة أو تُبصر فيه بوادر حل حقيقي. وبالرغم من تعدد العوامل التي تغذي هذا الصراع، يبقى التطرف الديني أحد أخطرها وأشدها رسوخًا. فبينما يمكن تسوية النزاعات السياسية القومية عبر مفاوضات وتنازلات متبادلة، يشكِّل التطرف الديني عائقًا ذهنيًا وعقائديًا يحول دون الوصول إلى أرضيَّة مشتركة.
ففي الطرف اليهودي، تُكرس بعض الحركات الدينية المتطرفة فكرة أنَّ "أرض إسرائيل الكبرى" هي وعد إلهي لا يجوز التنازل عنه، وترى أنَّ كل اتفاق سياسي يتضمن التخلي عن جزء من الأرض هو خيانة للعقيدة اليهودية. هذه الرؤية تُغذيها عقيدة مشيحانية، أي الإيمان بمجيء "الماشياح" أو المهدي المنتظر الذي سيقوم ببناء الهيكل الثالث في أورشليم - القدس، وترتبط بمفاهيم الخلاص الإلهي، مما يجعل أيّ تسوية سياسية تتعارض معها مرفوضة سلفًا.
وفي الجانب العربي الفلسطيني، تتجلى مظاهر التطرف الديني في خطاب بعض الفصائل الإسلامية التي ترى في فلسطين "وقفًا إسلاميًا" لا يجوز التنازل عنه أو القبول بتقاسمه. هذا الطرح لا يرى في الصراع صراعًا على وطن أو حقوق سياسية، بل معركة دينية مقدسة لا تُحل إلا بزوال "العدو الكافر"، مما يغلق باب التسويات أو التفاهمات العقلانية.
إقرأ أيضاً: هل ما زال الإعلام حراً؟
تفرض آفة التطرف هذه ما يسمى بـ"لعبة الصفر"، حيث يُعد أي مكسب لطرف ما هزيمة للطرف الآخر، لا لأن ذلك المكسب يتعارض مع مصالحه، بل لأنه يُخالف تصورًا دينيًا متشددًا عن "الحق الإلهي". وبهذا، يفقد الصراع بُعده الإنساني والاجتماعي، ويتحول إلى معركة عقائدية مطلقة لا تخضع لمنطق الربح والخسارة أو الأخذ والعطاء، كما شهدناه وما زلنا في الحرب الأخيرة.
هذا الواقع يعزز مكانة المتطرفين من كلا الجانبين ويبرز تفسيراتهم المغرضة للنصوص الدينية، ويروج لوجهة نظرهم التي ترفض أي حل سلمي باعتباره تفريطًا في "أمر مقدس". وهنا تكمن الخطورة الحقيقية: فبينما يسعى الساسة المعتدلون لبناء جسور الحوار، يهدمها المتطرفون باسم "الحق الإلهي" الذي لا يقبل التفاوض كما جرى مع اتفاقيات أوسلو. وللأسف، هناك سياسيون في كلا الطرفين لا يزالون يستغلون بشكل تهكمي هذه النعرات المتطرفة للبقاء على سدة الحكم، إذ إنها تشكل أحيانًا بيضة القبان، بالرغم من أنها لا تحظى بأغلبية الأصوات، فهؤلاء الساسة يخرجون مارد التطرف من القمقم معتبرين إياه أداة طيعة بأياديهم، إلا أنه قد ينقلب عليهم ويحتل مكانهم بالقوة، كما جرى عدة مرات في التاريخ.
إقرأ أيضاً: النزاعات الداخلية في إسرائيل والسبل المتاحة للتغلب عليها
كيف يمكن التعامل مع هذا النوع من التطرف وتحييده؟
أولًا، يجب مواجهة التطرف الديني أمنيًا، وإخراج التيارات الأكثر تطرفًا باسم القانون ومنعها من لعب أي دور سياسي، وهذا من حيث مبدأ الديمقراطية المدافعة عن نفسها. ولكن إلى جانب ذلك، يجب التعامل مع خطر هذه النعرات فكريًا وتربويًا أيضًا. يجب دعم أصوات دينية معتدلة من الطرفين تعيد قراءة النصوص الدينية بروح إنسانية وسياق عصري، وتُظهر أن الدين لا يتعارض مع السلام، بل يدعو إليه.
ثانيًا، يجب تعزيز التعليم النقدي، الذي يُنمّي لدى الأجيال القادمة القدرة على التمييز بين الدين كقيمة روحية سامية وبين استغلاله السياسي لتغذية الكراهية.
إقرأ أيضاً: سقوط نظام الأسد: ماذا يحمل في طياته لإسرائيل؟
وأخيرًا، لا بدَّ من إشراك المجتمع المدني والمؤسسات الدينية المعتدلة في الحوار السياسي، لكيلا يُترك المجال للمتطرفين لاحتكار الخطاب الديني.
في الختام، إنَّ تحييد التطرف الديني هو الشرط المسبق لأي سلام دائم في الشرق الأوسط. فهل نمتلك الشجاعة الجماعية لمواجهة هذا التحدي؟