الدولة الملتبسة التي تكونت بعد سقوط نظام الأسد في سورية، ليست بدعة خارجة عن سياق تاريخ الثورات في مختلف بقاع العالم المتخلف الذي يضطر شعبه إلى ثورات ليستعيد حقه من سلطات جائرة.
يأتي الالتباس من طبيعة تكوين الثورات التي تنتصر، وتعمل على إنشاء دولة. وكثير من قادة الثورات الذين يستولون على الحكم، لا يكونون من مؤسسي الثورات، ولا سيما تلك التي تتحول إلى ثورات مسلحة، فلا يفوز فيها إلا عتاة الحرب وأصحاب ذهنيتها، ويتعذر عليهم الانتقال النوعي من الثورة إلى الدولة.
لذلك، تكون الدولة الناشئة بعد انتصار الثورات ملتبسة بين الدولة والثورة، وكثيراً ما أخفقت الثورات في بناء دولة، وعاد بناة الدولة العميقة للاستيلاء على السلطة. وربما يكون الالتباس أشد تعقيداً في حال سورية التي طالت حربها، وتبدلت مبادئ الثورة، وتقهقر قادتها الأساسيين، وتحولت إلى أيدٍ لها مفهومها الخاص للثورة الذي لا يتلاقى مع مبادئ نشأتها إلا في التخلص من الحكم الجائر.
ولقد كان لتنكيل الأسد ببناة الثورة وأنصارها أثر عظيم في تبدل أهدافها ورؤيتها لمفهوم الدولة. وترك هذا التنكيل المجتمع بأكمله مكلوماً يرى كل شيء بعين النقمة والانتقام، وكل ذلك يبدد قيم الدولة المنشودة تحت ضغط هذه الجراح.
وأيّ مجتمع مجروح في كرامته جرح المجتمع السوري من مغتصب سيادته الأسد الفار... وأي جراح غير جراح كرامة سورية تشرب لبن العصفور، وأيّ ثأر يعوزه لبن العصفور مثل ثأر جراحها التي تصيح ملء المدى لتتقوى لثأرها. ولا يحتمل وجع الثأر في لغته تمييز الخطأ الشائع بالتعبير. وقد شاع خطأ تفسير لبن العصفور بنسبته للطير الصغير المعروف، وأن المراد من المثل استحالة أن يكون للعصفور لبن. ولأن الجراح تصوّب صراخها ذاتياً. والحكمة أيضاً تصوّب ذاتها في صبر مجروحي الكرامة. فإن أساس هذا القول في حقيقته هو نسبة اللبن للنوق العصفورية (فأكرم فحل كان للعرب من الإبل كان يسمى عصفوراً، وتسمى أولاده عصافير النعمان) التي لم يملكها سواه وكسرى، وطلب لبنها ضرباً من المستحيل. وهو الذي طُلب من عنترة مهراً لعبلة على وجه التعجيز. والعرب كانوا لا يعجزهم مستحيل عن حبهم وكرامتهم. وكان لهم أن يسوقوا يوماً كسرى مغلولاً بذيل عصافيره، ومن يومها ما انطفأت نار حقد المجوس على العرب، ولم تكن جراح سورية إلا بسكاكين ورثة حقده التاريخي.
ولم تكن ولادة المجتمع السوري لثورته من خاصرته إلا ثأراً لجراح كرامته الإنسانية أولاً، فهو ثأر من دكتاتور فاجر الظلم سارق كرامة مواطنيه. وثانياً، ثأر لجراح كرامة إسلامه، لأنَّ المجتمع السوري من وراء حجب الإعلام عانى اضطهاداً وتنكيلًا فريدين في بشاعتهما من حقد مذهبي مارسه تشيّع الفرس وأتباعهم على الأغلبية السنية، وأُفرط في الاستهزاء منهم والانتقام التاريخي من رموزهم.
انتفض المجتمع السوري ثأراً لكرامته وتعرضت انتفاضته لقمع يندر أن يكون له مثيل في التاريخ من قتل وتعذيب وتهجير.
أخفقت الثورة السورية في حراكها السلمي الواسع واستجرها النظام إلى حراك قتالي كاد أن يطيح به لولا تدخل روسيا وإيران وأذرعها الميليشياوية الطائفية، فتوزعت قواها وغرقت في تناحر مكوناتها، وكادت أن تخمد جذوتها إلى أن حدث طوفان الأقصى، فحرّك إسرائيل لهتك أذرع محور الفرسنة، فخرقت كل قواعد الاشتباك بينها وبين ميليشيا نصر الله فقطعت رأس هذه الميليشيا، وهذا ما ضيّق على الأسد في سورية سبل مجابهة تحرك قوى ردع العدوان بقيادة هيئة تحرير الشام، فأسقطت جلاد سورية واستوت على كرسي السلطة.
وحدّ انتصار الثورة السورية أعداءها بقيادة الحلف الفارسي المنهزم، فزجهم في خندق مناوئ، وتوحّش في إثارة الفتن الداخلية، معتمداً إستراتيجية الاستنزاف طويل المدى الذي لا تحتمله دولة منهكة الأركان، مخربة المكونات، والمقدرات الدفاعية والاقتصادية والاجتماعية. فكان على الدولة الناشئة أن تتوسل المعجزات في إقامة أودها وتبني تنمية إسعافية تستجيب إلى متطلبات أولويات حياة جماهير الثورة، وهي متطلبات واقعية، لكن تحقيقها قياساً لحال الهاوية التي وصلت إلى قاعها مكونات الدولة خياليٌّ أشبه بطلب لبن العصفور.
ولم تكن مجابهة ثأر محور الفرسنة لكرامته التي مرغها السوريون بالوحل، أقل تعجيزاً للدولة الجديدة، إذ أفلت المحور من عقاله واستفرس في تشكيل ثورة مضادة أسسها على تثوير الفتن بين مكونات المجتمع السوري، ونقمة فلول النظام، وأصحاب النزعات الانفصالية، واتبع في تأجيجها استراتيجية استنزاف الجبهات المتعددة لقوى الدولة، وإشغالها عن التنمية والاستقرار في إطفاء نيران الفتن المتحركة، ويكاد يحتاج تحقيق ذلك إلى جلب لبن العصفور لشدة تعقد تفتق بؤر الفتن.
أما الطامة الكبرى، فكان تحريض عداء أميركا وأوروبا وبعض دول الإقليم على الصبغة الإسلامية لقيادة سورية الجديدة، وتعاون على تغذية هذا التحريض محور الفرسنة، والانفصاليون، وفلول النظام بطريقة القيادة من الخلف، بينما استأسدت إسرائيل على قيادة مقدمته.
نزعة عداء الدولة الإسلامية مستقرة وراسخة في عمق التفكير السياسي الأميركي، ولا يحتاج تفجير سكونها الظاهر إلا إلى رمي حجر إعلامي تحفيزي، فأميركا يتحكم في عقلها السياسي التخوف التاريخي من الصحوات الإسلامية شأنها شأن أوروبا، وكلاهما يتحرك على ثقافة تحريضية مستدامة من مفكريها لعداء الصبغة الإسلامية لأي دولة.
وإذا كانت مقولة فرنسيس فوكوياما (المجتمعات الإسلامية مجروحة في كرامتها) لتقهقرها الحضاري، فإنَّ جراح كرامة المجتمع السوري ثنائية في الظهر من حاكمها عبد الفرس وفي الصدر من محور أسياده.
ولم يكن قول فوكوياما بوادٍ غير ذي زرع، إذ تردد صداه في مختلف أجواء أندية مفكري الغرب وساسته ورعيته. ولشدّ ما تمكّن تأثيره من التحريض على عداء المسلمين والخوف من صحوتهم. تحريض على ما سيكون لا على ما هو كائن. ولم يكن فوكوياما وراء جبل يحجب عنه رؤية حقيقة انكسار الذات الإسلامية وإذلالها الحضاري بيديها أم بيد "قيصر" مرارة الذل بطعم واحد.
وأميركا شيخة كار إبداع سياسة العداء الوقائي، فأسهم مفكروها في التأجيج المستمر لتأهبها لحرب وقائية دائمة تشنها ولو بتخيّلها صحوة إسلامية في مختلف شتات المسلمين.
ولم يتوانَ منظرو السياسية الأميركية والغربية عن المثابرة في إثارة شعور كراهية الإسلام والتخوف منه، وكاد يكون ذلك مياومة فكرية تحريضية، فقد نشر على سبيل المثال المفكر السياسي بريان بيدهام مقالاً في "هيرالد تربيون" ذات التأثير العالي في بناء الرأي الجماهيري والسياسي في أميركا، قال فيه: "الحرب مع الشيوعية كانت ثانوية قياساً إلى الحرب مع الإسلام، فالحرب مع الشيوعية استغرقت سبعين عاماً، بينما حروب الغرب بدأت منذ ألف وأربعمئة عام وما زالت مستمرة".
وكان الباحث السياسي ميتشيل بيفون لا يمل من إثارة التحريض والقلق من الصحوات الإسلامية، فكتب في صحيفة "التايمز" البريطانية إن "الإسلام اليوم وبعد مرور ما يزيد على 14 قرناً على رسالته يمر وبعد فترة من الجمود بمرحلة من اليقظة الروحية شبيهة بمرحلة التجديد التي مرت بها الكنيسة في الغرب. وما يطلق عليه اليوم الأصولية الإسلامية قد يكون شبيهاً بالهجوم المضاد الذي شنته الكنيسة الأصولية على حركات التجديد الأوروبية". ويوحي بأنَّ هذه اليقظة تتوافر على حيوية تؤهلها لمنافسة أقطاب حضارة العصر والتغلب عليهم بما يسمح لها بالهيمنة الجيوسياسية المطلقة.
وكان فوكوياما يرى أنَّ الأصولية الإسلامية هي أحد فروع الفاشية التي تسعى إلى السيطرة على العالم، وكان يقصد من وراء مقولته (المجتمعات الإسلامية مجروحة في كرامتها) إثارة الخوف من شدة نقمة المجتمعات الإسلامية وجموحها في التسلط الانتقامي عليه.
ومن غير شك يتطلب مجابهة هذا العداء مناورات سرمدية الصبر والتكتيك، تتطلب تفكيك عقدة لبن العصفور.