: آخر تحديث

ظمأ الاعتراض

1
0
1

"لو سكت مَن لا يعرف الخلاف لقلَّ الخلاف"

- ابن رشد


كانت عبارة "فكِّر ثم أجب" ترافق أوراق امتحانات الطلبة يوماً من الأيام في بلدنا، لتحث الدارِس على التركيز وعدم التسرع في إعطاء الأجوبة الخاطفة التي خطرت ببال واحدهم أو التي توقعها الطالبُ للتوِ أو تهيأ له بأنها الصواب المطلوب، ولا شك في أن التشديد على العبارة تلك كان غرضه إعمالُ العقلِ قبل أن يباشر طالب العلم بالجواب على السؤال، لأنه ياما من طلبة من فيض التسرع أعطوا الأجوبة على أسئلة معينة ولكن سرعان ما اكتشفوا بأنهم جاوبوا في المكان الخطأ وأعطوا الجواب الصحيحَ للسؤال الخطأ، وذلك لأنهم عوَّلوا على التخمين الذي داهمهم في بادئ الأمر، ولم يُمعنوا النظر ويعطوا فرصةً كافية للتفكير اللازم في السؤال المطلوب منهم الإجابة عنه.

وعلى غرار جملة "فكِّر ثم أجب" حبذا لو يتم في وسائل التواصل الاجتماعي تعميم عبارة اقرأ وافهم ثم اعترض وانتقد أو جملة استفهِم قبل أن تداهم، وذلك حتى تذكِّر تلك الجملة كل عابرٍ من أمام الجدار الخاص أو النافذة الشخصية بأن عليه التأني وإمعان النظر وتقليب المنشور على صفيح التحري قبل الاعتراض أو الهجوم على القائل والمقول، باعتبار أن الكثير من الإخوة في وسائل التواصل الاجتماعي يحكمون على العنوان ويبدؤون بنقد المادة أو الخبر أو المقالة قبل قراءة مضمون المادة، ويهجمون على المقتطف الظاهر في الفيديو قبل الاستماع إلى محتواه أصلاً، لأن ظمأ الاعتراض والانتقاد أو هوس إعطاء الرأي الشخصي لديهم لا يسمح لهم بالتريث والتأكد من حقيقة ما يتحدثون عنه أو مضمون التصريح أو الخبر الذي حرّك رغبة إطلاق الأحكام لديهم.

إقرأ أيضاً: في الإشادة بكوردستان ماجيك

وبما أن شريحة كبيرة من جمهور السوشال ميديا تعودت على الخطف والمسارعة في تعميم المقتبس الذي انتزعوه من سياقه هنا أو هناك ومن ثم قاموا بنشره على نطاقٍ واسع، فهو الأمر الذي يدفع ببعض المشاهير في عالم الفنون من التهرب عن إعطاء التصريحات التلفزيونية أو الصوتية، لإدراكهم بأن حشود السوشال ميديا وجماهير الوجبات الخبرية السريعة ليس لديها الاستطاعة للاستماع إلى كامل التصريح أو إتمام كل الخبر ومن ثم نقله بموضوعية، إنما من العجالة يأخذون عن بعضهم بعضاً ربما أقل الفقرات قيمةً أو أكثرها إشكالاً من سياق المقطع المسجل أو من جسم التصريح أو الخبر، من أجل أن يحصل منشورهم المجتزأ على أكبر كمية من التفاعل على حساب جسدي الحقيقة والموضوعية.

ولكن يبقى الأكثر ألماً هو أننا إذا ما كنا نشكو في التعليقات السلبية والاعتراض المستمر والخالي من دسم الضرورة من جمهورٍ لا ينظر إلاَّ بعينٍ واحدة ومن خلال البوري الخاص بواحدهم والذي لا يشبه إلاَّ بوري الصوبيا، فصرنا اليوم بشَطَط بعض المتعلمين وأصحاب الشهادات الجامعية الذين يرون أنفسهم في الحالة العادية أهم من العامة، ولكنهم سرعان ما يصبحون ضحايا المنشورات العاطفية لمن ينعتونهم بالجهلاء، فهم في الحالة العادية يعامِلون العامة بفوقية مبالغ فيها، ولكنهم إبان استنفار الرأي العام بسبب واقعة ما أو إبان حدوث أزمةٍ ما، تراهم منساقين مع الحالة القطيعية للذين يصفونهم بالدهماء من حيث لا يدرون، وكمثال واقعي على ذلك، فعندما نُشر على منصات سائل التواصل خبر افتتاح مشروع "بافيلون باي رامس" في مدينة أربيل بحفل فني يضم الفنان السوري جوان حاجو والفنانة اللبنانية نانسي عجرم، بدأت المداهمات اللامبررة على اجتماع هذا الثنائي، مبدين امتعاضهم التام من تجاور الاسمين، وأناس آخرون شنوا غاراتهم على الفنان التركي بوراك أوزتشيفيت الذي وصل أربيل آنذاك للإعلان عن شراكة إعلانية مع مشروع بافيليون من شركة رامس كلوبال، أحد أضخم المشاريع الاستثمارية والسكنية في أربيل، غير منتبهين إلى أن صاحب شركة رامس غلوبال، رمضان بلبل، هو من مواطني الجمهورية التركية ومن منطقة جزيرة في شرناخ، وهو حر في اختيار أي فنان أو عارض أو راقصة للترويج لمشروعه سواء استسغنا اختياراته أم تأففنا منها.

إقرأ أيضاً: هل يأخذ عبدي بكلام البارزاني؟

إذ أنَّ المتعلم لدينا الذي تم سوقه من قِبل أصحاب البوراي لم يعد يدرك معنى وأهمية جلب الاستثمارات الخارجية إلى منطقة جغرافية ما؟ وما فائدة عوائد إقامة تلك المشاريع على الناس وخاصة الأيدي العاملة طوال مرحلة البناء عدا عن أهمية المشروع نفسه بعيد الإنجاز؟ ولأنهم تعودوا على طبيعة ومناخ الأنظمة الشمولية، لذا فإن أحكامهم في وسائل التواصل فيها نصيب كبير من التفكير الشمولي ولكن من دون الانتباه إلى ذلك التصرف، باعتبار أنهم آمنوا بما قدمه أو نشره صاحب البوري على منصته أو صفحته، إذ بتصور هؤلاء المتعلمين أن الحكومة في مكان ما عليها التدخل بشأن أي مشروع تجاري أو صناعي أو ثقافي والتحكم به وتوجيهه كما هو الوضع في سورية منذ عقود، وكذلك الأمر في كل الأنظمة الأمنية، إذاً برأيهم أن على الحكومة التدخل حتى في اختيار الراقصات والمطربين الذين تتعاقد معهم هذه المؤسسة أو تلك!

إقرأ أيضاً: كمشة مفارقاتٍ سورية

على كل حال، فبعد أن علمنا من خلال تصريحات بنان كبسوتلو، مديرة إعلام الشركة قبيل انطلاق مؤتمرهم الصحفي أن المشروع المذكور يمتد على مساحة نحو 2 مليون متر مربع، وأن "بافيليون" لا يستهدف فقط أصحاب الدخول المرتفعة، بل هو مشروع مهم لجميع سكان المنطقة وإقليم كوردستان وأربيل، حيث يضم خمس مدارس ستقدمها رامس غلوبال كهدية، بالإضافة إلى مكتبة ومركز علوم ومركز رياضي ومسرح، كما أن المشروع يتميز بوجود أكبر بحيرة اصطناعية في المنطقة، والمياه المستخدمة في المشروع ستفيد سكان أربيل بشكل عام، وأن "بافيليون" يضم مساحات خضراء واسعة، وبحيرة تمتد على حوالى 300 ألف متر مربع، تشمل أشجاراً وحدائق، مما سيساهم في زيادة نسبة الأوكسجين في المنطقة، والبحيرة الكبيرة التي سيتم إنشاؤها ستساهم هي الأخرى في تلطيف الأجواء وتقليل تأثير ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف اللاهب في العراق، لذا فالسؤال الذي يخطر ببالنا هو: يا ترى إذا ما تلاقت كل الحشود المعترضة، وائتلفت كل الفرق الممتعضة، واتفقت كل الكروبات المنتقدة، واجتمع كل المهاجمين على اختيارات الشركة أو على الإقليم برمته وتحميله سبب اختيارات هذه المؤسسة أو تلك الشركة، فهل سيقدرون على إفادة الإقليم ولو بما يساوي 5 بالمئة من قيمة ذلك المشروع أو ما يقوم به ذلك المستثمر؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف