: آخر تحديث

الرّقة .. بانتظار الإعمار

21
29
15

ظلت الرّقة إلى فترة قريبة تئِن من الألم وتعيش الفاقة بكل مؤسياتها، بعد أن عُرفت بــ "ولاية الرَّقة"، والامتيازات الكثيرة التي لحقت بها وأظهرتها على أنّها أنموذج آخر ومدلّل بالنسبة لأخواتها البقية من المدن السورية التي تعاني الفاقة!. وسبق للرقة أن تحولت من مدينة زراعية بامتياز، إلى مسرح لعمليات "داعش" والخراب والدمار الذي جلبه إلى أهلها البسطاء الطيبون، الذين أكثر ما يهمّهم علاقاتهم الأسرية وأعمالهم الزراعية، والاهتمام بما يملكون من ثروة حيوانية، صارت تتلاشى في الفترة الأخيرة، وتتناقص لعديد من الأسباب، وأهمّها الغلاء المستشري الذي لم يخلص منه أحد، وبصورة خاصة بالنسبة لأبنائها الفلاحين والمزارعين الذين يقطنون في ريفها الجميل.

وكانت مجرد غنيمة، استسهلها الغازون من كل حدبٍ وصوب، ومورد رزق غير عادي لكل من حاولَ التحايلَ على أهلِها، واغتصب منتوجاتهم، ونهب خيراتهم، وإبقائهم جياعاً مهمّشين أذلّاء يعيشون على الكفاف، نتيجة الفقر المدقع الذي أصابهم في الصميم، ما شكّل قناة مفجعة وميؤوس منها، في ظل الظروف الحالية التي عايشوها على مدى السنوات التي تلت الأزمة الخانقة التي عاشتها الأسرة السورية بصورة عامة.

الكثير من الصور الخرافية تسيّدت المشهد المؤلم بتحويل الرّقة إلى مدينة أشباح، ولحقها الدمار شبه الكامل، ما يعني مسحها عن بكرة أبيها من على الخارطة السورية بذريعة محاربة داعش، وهذا ما أنهك كاهل أهلها، وشرّدهم وأبعدهم عن منازلهم ملتحفين السماء، وحوّلتهم إلى مجرد أناس مسلوبي الإرادة، وهم في الواقع، ليس لهم "لا بالعير ولا بالنفير"، وموردهم الأساس ما تنتجه الأرض التي تعود إليهم ببعض الأمل.

حياتهم هذه انغمست فيها الكثير من المنغصّات، وتجسّد ذلك، وبوضوح، بدخول اللصوص المرتزقة، والقتلة ومن كل أصناف البشر، وأتوا على كل ما يمكن أن يَسدّ رمق أبنائها الذين، هم بالكاد باتوا غير قادرين على تأمين لقمة سائغة تخفّف عنهم وطأة الحاجة الذليلة!

الأفكار تعيد بالذاكرة إلى هناك، حيث الرّقة، المدينة التي عشنا فيها أيام الطفولة والصبا، وأمضينا فيها بقية العمر، إلى أن غادرنا أراضيها وقلوبنا وعيوننا تحدّق إلى دروبها وحاراتها، وشوارعها العريضة، طرقاتها الواسعة، وإلى ذاك النهر الفيّاض، الذي يزوره أهل المدينة في قيظها الحار صيفاً.

فالرقّة، وبكل هدوئها، ونبضات قلوب أهلها وطيبتهم وعشرتهم وأمانيهم وتوادّهم، ظلّوا كما هم، لم تغيّر الحياة بهم شيئاً على الرغم من الأحداث التي حملت الكثير من الهموم والأوجاع والآلام والفراق!

هذه مدينة الرَّقة... مدينة الخليفة العبّاسي هارون الرشيد. المدينة التي أنجبت الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي، رحمه الله، كما أنجبت المؤرخ والباحث، مصطفى الحسّون، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى، والكثير من الأدباء والوجهاء، وغيرهم ممن حفل بهم تاريخ مدينة الرَّقة المعاصر.
فأبناء الرّقة، لم يستلوا يوماً خنجراً ولا سيفاً، ولم يطلب ابنها إلّا العيش برغد، وأمان واطمئنان.
العيش ببساطة، وفي ظل إمكانات محدودة، وقبل بكل ما فيها، وتحمّل الأوجاع!.
فابن الرّقة، ظلّ دائماً مسالماً، متألقاً، مقداماً، وأكثر ما يميّزه عن بقية أقرانه، شهامته، أصالته، بساطته، كرمه، وانفتاحه على الناس.

إنّ الرّقة اليوم ما زالت بانتظار الاقلاع ببنائها من جديد بعد تعرض أجزاء كبيرة منها إلى الدمار شبه الكامل، وهذا يتطلب أموالاً كثيرة، وبدعم دولي من أجل عودة الحياة إليها على الرغم من أن الكثير من أهلها فرّ هرباً من هول الصدمة والحال الذي بدت عليه نتيجة ما حل بها من دمار وتخريب كامل في بنيتها التحتية، وبالدور السكنية التي لم تعد تصلح للسكن والمأوى!.

إنَّ ابن الرّقة، لم يكن في يوم ما ميّالاً للحقد، أو الاقتتال، بل كان أكثر ما يَمِيلُ للتسامح، والبعد عن عقدة المظهرية، والبساطة في لباسه، وبصورةٍ خاصة، لجهة ابن الريف الذي يزورها مع الصباح الباكر، جالباً معه، ما تنتجه أرضه الخيّرة، من خضروات..

والشريحة الأكبر من أهل الريف، أكثر ما يهتمّون بتربية الأغنام، المورد الأساس لمعيشة أفراد أسرهم، وما تنتجه من مواد أساسية لها طابعها الخاص لدى ابن الرّقة.

وتقوم الرّقة اليوم، إلى الشرق من حلب عاصمة بلاد الشام الاقتصادية على مسافة تبلغ مائة وثمانين كيلو متراً، إلى الشمال الغربي من مدينة دير الزور أكبر مدينة عربية على الفرات.. والتي تبعد عنها بمقدار مائة وأربعين كيلو متراً.

وعند نقطة من هذا الطريق تُدعى (المقصْ) يتفرّع طريق طوله ستة كيلو مترات في اتجاه الشمال الشرقي ليتصل بجسر حديث البناء على الفرات، يؤدي مباشرةً إلى مدينة الرًّقة.
وتعتمد الرَّقة على نهر الفرات العظيم الذي يقذف في كل نصف دقيقة من الزمن ما يكفي لاستهلاك مدينة كبيرة في كل يوم.. لهذا قامت على ضفتيه زراعة كثيفة، يحتلُ القطن فيها مكان الصدارة، ويتلوه في الإنتاج القمح ـ ذهب المستقبل ـ والخضار بأنواعها.

وللرَّقة شهرةً عظيمةً بزراعة البطيخ الأحمر والأصفر، الذي كان يُصدّر إلى عاصمة العباسيين، إذ لا يزالُ العراقيون يطلقون عليه اسم (الرقّي) نسبةً إلى الرّقة، و(الجَبَس) في حلب، و(الدِبْشِي) في دير الزور والرَّقة، مثلما كانت مشتهرة بزيتونها وزيتها وصابونها المعطر.

فالرّقة، وأهلها يجمعهما خطّان متوازيان لا يمكن أن يفترق أحدهما عن الآخر، أضف إلى ذلك أسواقها المتواضعة التي يلتقي فيها الأصدقاء والمعارف والأقارب، والتي تشتمل على العديد من اللوازم ومتطلبات الحياة اليومية.

وابن الرّقة، لا يمكن له أن يهجرها لأنها صارت جزءاً مهمّاً في حياته، وزيارة هذه الأسواق تظل لها مكانتها الخاصة في قلبه وفي وجدانه.

ابن الرّقة، اليوم، تحمّل وعلى مضض، الواقع المتردي الذي يعيشه، نتيجة غياب الخدمات الأساسية، التي يمكن أن تدفع به نحو حياة طالما حلم بها، ما يعني أنَّ أهلها صاروا أسرى الحاجة، بكل ما تعنية الكلمة من معنى، خاصة بعد أن حلَّ الدمار بالمدينة، وانتزع فتيل الأمان الذي كانوا يعيشونه، ما يعني أنهم صاروا يبحثون عن مأوى يحفظ، أقلّها، ماء وجههم بعد أن كانوا يعيشون في مأمن.

[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.