يلاحظ الخبراء والمتخصصون أن هناك تكثيفاً للتقارير والتحليلات حول سياسات دول مجلس التعاون في وسائل الإعلام الأمريكية، وهذا ـ برأيي ـ مؤشر قوي على تنامي تأثير وثقل هذه الدول في العلاقات الدولية، فالخليج لم يعد نفطاً فقط كما يتصور بعض الساسة الغربيين، بل إن الأحداث قد اثبت محورية هذه الدول في حسابات التوازن العالمي وصراعات النفوذ والهيمنة على أي نظام عالمي حالي أو مستقبلي.
في النقاش المستمر حول دول مجلس التعاون الخليجي وفي محاولة فهم ديناميات السياسة ومحركاتها في هذه الدول، هناك ثوابت ومتغيرات، ومن بين ثوابت منطقتنا أن هناك سعي حثيث وجهد دؤوب يستهدف تحقيق الأمن والإستقرار في هذه المنطقة التي تحيط بها عوامل التوتر من الإتجاهات كافة، فضلاً عن جوار إقليمي ـ إيران ـ يعد في حقيقة الأمر قنبلة بارود قابلة للإنفجار في أي وقت بسبب عوامل الإحتقان الداخلية والجبهات الخارجية التي يتدخل فيها النظام الإيراني لأسباب وإعتبارات لا علاقة لها مطلقاً بالمصالح الإستراتيجية الحقيقية للدولة والشعب الإيراني.
في دول مجلس التعاون، وتحديداً في دولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية، وهما القاسم المشترك في التقارير الإعلامية الغربية، لا صوت يعلو فوق صوت خطط التنمية الطموحة للغاية والتنافس على جذب الإستثمارات وتوطين التكنولوجيا واللحاق بركب التنافسية العالمية في مختلف المجالات، وبالتالي نجد أنفسنا أمام حالة إستثنائية من البناء والتنمية وتوظيف للموارد لتحقيق أهداف وعوائد لا تقتصر على هذه الدول وشعوبها فقط بل تطال الكثير من دول العالم، سواء في ضوء وجود ملايين العمالة الأجنبية التي تنتمي إلى جميع دول العالم من دون إستثناء وما يعنيه ذلك سواء من حيث فرص العمل غير المباشرة المضافة لاقتصادات هذه الدول من دون جهد منها، أو المباشرة من خلال التحويلات المالية، أو حجم التواجد الكثيف للشركات الكبرى والعابرة للقارات، والتي تمثل الشريك للدول الخليجية في عملية التنمية.
أحد أبرز المتغيرات في هذه المنطقة، هو سياسات القوى الكبرى، التي تسمح لنفسها بأن تتقارب مع شركائها الخليجيين وقتما تريد، وحينما تتحقق مصالحها وتتباعد أيضاً وقتما تريد وحين تتنافر المصالح أو هكذا تتصور، وقد تجلى هذا الواقع في وقت ينتج فيه الطموح الإستراتيجي المتنامي لدول المنطقة، حقائق إستراتيجية جديدة أبرزها صعوبة الإعتماد على شريك إستراتيجي واحد في ظل تعددية مراكز التفوق التكنولوجي العالمي، والصراع التقني/ الاقتصادي الشرس الدائر بين الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً وعلمياً واقتصادياً وعسكرياً، ما جعل من تنويع الشراكات والتحالفات حتمية إستراتيجية لا فكاك منها لمن يريد مواكبة ما يحدث في العالم ولا يتخلف عن ركب التكنولوجيا بل والحفاظ على أمنه وتحصين استقراره.
الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الدولية الكبرى ليس خياراً بل حتمية لا فكاك منها بالنسبة لدولة إقليمية مؤثرة مثل الإمارات، فعقب زيارته المهمة إلى روسيا، وجدنا صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات ـ حفظه الله ـ يتواصل عبر لقاء فيديو مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث تناقشا حول علاقات الصداقة التاريخية والشراكة الإستراتيجية بين البلدين وسبل دعمها، وتركز النقاش بشكل خاص حول المبادرة الإماراتية الأمريكية الشاملة للإستثمار في الطاقة النظيفة، وتعزيز الأهداف المناخية المشتركة وأمن الطاقة العالمي، حيث تستهدف هذه المبادرة إستثمار 100 مليار دولار لتوليد 100 غيغاوات إضافة من الطاقة النظيفة في البلدين والإقتصادات الناشئة بحلول عام 2035. وهو ما يعكس قدرة دبلوماسية فريدة على بناء التوازنات والحفاظ على مساحات فريدة للمناورة والتحرك ولو بين المتنافسين أو حتى الخصوم الإستراتيجيين.
تحليل هذه النوعية من التحركات والعلاقات المتوازنة يتطلب إلماماً بامور شتى منها ذكاء القيادة وقدرتها على الإمساك بخيوط اللعبة المعقدة، ولاسيما في هذه الظروف الصعبة، من دون إفراط أو تفريط، والمبادىء التي تأسست عليها السياسة الخارجية الإماراتية، والأسس التي تتحرك بموجبها وتنطلق منها والأهداف التي تسعى إليها، وهذا كله ليس موضع إجتهاد شخصي كونه موثق بشكل مؤسسي في إطار وثيقة مبادىء الخمسين، الصادرة عام 2019، والإلمام بهذه الأمور والجوانب يفسر بوضوح ما يحدث بعيداً عن التأويل والخضوع لتفسيرات معزولة عن سياقاتها.
بلاشك أنه لا تعارض بين الإحتفاظ في آن واحد بشراكة إستراتيجية مع الولايات المتحدة وبين الإستعداد الإستباقي لأي تغيرات هيكلية محتملة تطرأ على النظام العالمي، وتوازنات القوى بداخله، ولا تعارض كذلك بين الإحتفاظ بشراكة مع الولايات المتحدة بموازاة شراكات مماثلة، وفق قاعدة مصالح وأهداف مختلفة، مع الصين وروسيا، لأن تنوع المصالح ومجالات التعاون الدولي لم تعد تقبل السير في مسار واحد ولا في إطار محدد، حيث تتداخل المصالح وتتقاطع وتتوازى وفق أنماط معقدة للغاية.
المسألة هنا لا تتعلق بجبهات أو تحالفات جديدة أو تراجع عن تحالفات تقليدية راسخة، بل مواكبة للتغيرات الطارئة عالمياً، وهو أمر لا ينكره واقع العلاقات بين الولايات المتحدة نفسها مع الصين، على سبيل المثال، والذي تشهد عليه احصاءات التبادل التجاري، التي تشير إلى معدلات زيادة مستمرة وصلت به في عام 2021 إلى نحو 756 مليار دولار، بنسبة ارتفاع تبلغ 28% مقارنة بالعام السابق.
تمدد الصين وروسيا استراتيجياً في منطقة الخليج العربي يفترض ألا يكون أمراً مفاجئاً ولا بالضرورة إنعكاس لخيارات خليجية جديدة، فالمصالح الإستراتيجية للقوتين تتطلب تعزيزاً للتعاون مع الشركاء الخليجيين، وهذا ناتج بالأساس ـ كما أسلفنا ـ من أن الخليج لم يعد نفطاً فقط، بل شبكة واسعة من المصالح وأوجه التعاون والتبادلات مع القوى الإقليمية والكبرى، وفي هذا الإطار يمكننا القياس كذلك على إسرائيل التي أصبحت شريكاً للإمارات في مجالات إقتصادية وصناعية وعلمية عدة في إطار صيغة "شراكة إقتصادية شاملة"، ولا يمكن القول أنها تحل بديلاً لأحد في هذا النطاق أو الهامش النوعي من التحركات الإستراتيجية، بل يتلاقي الجانبان بالأساس في مساحة جيوسياسية ولدتّها الطموحة التنموية التنافسية الجديدة.
الثابت الوحيد في عالم اليوم هو التغير، فالعالم يعيش حالة متسارعة من التغيرات الإستراتيجية التي يصعب بناء تصورات دقيقة بشأن مساراتها ومآلاتها، وبالتالي فإن الدول الحية التي تتسم بقدر عال من الديناميكية والمرونة في التحرك ضمن أطر مختلفة، سياسية، دبلوماسية، اقتصادية... الخ، تسعى لمواكبة مايدور من حولها ومحاولة تعظيم الفرص والإستفادة منها، والحد من تأثير التحديات وتجنب مخاطرها وتداعياتها المحتملة.