: آخر تحديث
الجزء الأول (1)

من وَحي «السوشيل ميديا»

59
55
51

لكلّ زمان رجاله وَوسائله وَمؤثروه. وَالمجتمعات لا تتغيّر إلاّ بتغيّر توجّهات الفرد وَوعيه وَقدرته على النقد وَالتحليل، أي نقد التجارب التي سبقت، وَتحليل ما آلت إليه مِن نتائج لتصويب السبيل، وَالتقدم وَالتحسين.

    قديمًا، كانت الصحف تزدان بمقالات مفكرين يكتبون الأدب وَلَو كانوا ساسة يتهاجَون، يتوسَّلون اللغة بكامل علومها وَحُسن سبكها، وَصحة سياقاتها، وَترفّع لغتها، حتى يمكن القول بأنَّ الصحف آنذاك كانت متون علم وَثقافة وَتنوير سواء في المدح أو الهجاء أو السرد أو النقد أو البرهان.
 
    على صفحاتها مباحثُ تاريخيةٌ دوَّنها متخصصون، وَنقدٌ لكتب، وَتعليقٌ على مقال وَردٌّ على التعليق يُغني القارئ، وَيفتح عقله على نوافذ تفكّر جديد... حتى المباحث اللغوية وَالمناظرات في طواعية دلالة اللفظ الموجود على مواكبة الحداثة،  أو قدرة الاشتقاق على أنْ ينوب عنِ التعريب في ما يَفِدُ مِن غريب، وَجدت لها متسعًا على صفحاتها...

    بِحبرها كان المؤثرون يجهدون وَيجدُّون لإيصال أفكارهم وَإيقاد قافلة التنوير في وَعي العامة، كما الحرية، وَالسيادة، وَقيمة الإنسان، لأنّها الأقدر على نشر المعرفة وَإيصال الكلمة.

    ومع أنّ علاقة الإنسان بالورق قديمة قِدَم أوراق البردى، إلاّ أنّ هذه العلاقة اختلَّت مع غزو التكنولوجيا عالم الفرد لا سيّما في السنوات الأخيرة، عندما ازدهرت التطبيقات بتوجّهاتها المختلفة، وَبعض المواقع التي يتمكّن مِن خلالها الفرد مِن إيصال أي معلومة يريد لكلِّ مَن ينقر عليها وَقد استحالت مرئية مسموعة، وَالتي معها كَسبَ لفظ «المؤثر» دلالة جديدة ترتبط بعدد المتابعين، وَاستحال المتلقّي مشاهدًا في غالبية الأحيان بعد أنْ كان في الأساس قارئًا.

     والسؤال الذي يطرح نفسه في عصر «الواقع الاِفتراضي»، في عصر العولمة وَالتكنولوجيا هو: لو قُدّر للمؤثرينَ مِن الفلاسفةِ كاِبن رُشد وَابن طفيل وَابن سينا، وَالأدباءِ وَالمفكرينَ أمثال مي زيادة وَنازك الملائكة وَالعقاد وَالرافعي وَالأمير شكيب أرسلان وَنعيمة وَمطران وَالسيّاب وَالحلاج وَالمعرّي وَالمتنبي أنْ يكونوا بيننا اليوم أكانوا نشروا أفكارهم وَنثرهم وَشعرهم متوَسِّلينَ التطبيقات وَالمواقع التي أصبحت الصاحب وَالرفيق وَالنديم للبعض، وَواقعًا آسرًا للبعض، وَمصادر موثوقة للإرشاد على أنواعه غير مكتفين بالنشر في متونٍ مِن وَرق؟

    لعلّهم فعلوا، كما يفعل العديد مِن المتنورين اليوم  لا سيّما عبر إنشاء مواقع خاصة بهم، تمكّنهم مِن الوصول إلى الفرد – قارئًا وَمشاهدًا-في أي زمان وَمكان، وَمن تخطّي مقصَّ الرقيب، وَنشر أفكار الحداثة وَالتنوير لنفض الغبار الذي اعترى الفكر وَأحال النهضة في سُبات في دلالة جليّة على أهميَّة نواتج التكنولوجيا وَالعولمة في دحر سلطة الجهل عن العقل. 

فهذه المواقع قدّمت المعرفة لكلِّ مَن يبحث عنها، وَيسَّرت البحثَ على طالب العلم، وَجعلتِ الخبر في متناول الآنِ في أيٍّ مِن أصقاع الأرض نزلَتْ، وَبِلغة قريبة مِن لغة التواصل اليومية يسَّرَت ما سبقَ أنْ كان مُغلقًا على أفهام «العامَّةٍ» لصالح الخاصة. 


    وعليه، لا تكمن المشكلة في تطبيقات أو مواقع، بل في المحتوى وَصاحبه. إذْ صار البعضُ يعمدُ إلى تسجيل يقدِّم فيه ما يجذبُ المتابعين بما يَضمنُ ازديادَ عددهم بغضِّ النظر عن مصداقية المضمون أو ميزانه الأخلاقيّ، أو الحِرَفي، أو المعرفيِّ، مبدعًا أحيانًا، وَأحيانًا ناسخًا ما يعجبه مِن تسجيلات الآخرين...
بل وَتتعدّى هذه المشكلة المحتوى وَصاحبه إلى اعتقاد البعض – مِنْ غيرِ ذوي التخصص- بأنهم فلاسفة منقذون!!! أو مرشدون يقدِّمون الحلول لحياة سعيدة كَتِلك التي يرسمها الخيالُ في الأفلام أو الأساطير! 
وبين التزييفِ وَالتنوير، قصص يُستمد منها الغالي وَالنفيس؛ قصص تُذكِّرُ البشرَ بأنهم مِن طين، وَتجعلهم على قلب وَاحد، تَرفع مِن معنوياتهم، تَرسم ابتسامات على شفاههم، وَأخرى تُنبتُ الشِّقاقَ في أرضٍ سواء، وَتَئدُ بالنّارِ الجرحَ العميق...  

يُتبع..
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي