: آخر تحديث

أفعل التفضيل وصيغ المبالغة...

47
44
50

أفعل التفضيل كلمة على وزن «أَفْعَل» تدلُّ على شيئين اشتركا في الصفة، وزادَ أحدهما فيه على الآخر، كأنْ نقول: «فلانُ أكثرُ ذكاءً من فلان».
والمبالغة من بلغَ، يتبلّغ، أي وصل إلى الشيء أو وصلَه الشيءُ، أو توصَّل له، والبلاغُ الكفاية والتمام والإدراك. أمّا صيغ المبالغة فتستخدم للدلالة على الغلوّ في الدلالة متعدِّية الوصول إلى المعنى إلى الإغراق فيه، أو إلى منتهى المعنى. 
والأمثلة التي يمكُنُ أنْ تُضرب على هاتين الصيغتين كثيرة؛ كأنْ نقول في أفعل التفضيل مثلاً «أنتَ أكثرُ ذكاءً من أخيكَ»، «أنتَ أكثرُ قدرة على النهوضِ بِأعباءِ العائلة مِن اِبن عمك»، «نحنُ أفضلُ الخَلْقِ خُلُقًا» أو «نحنُ أكثرُ النُظم اِحترامًا للديمقراطية»، أو « إنّكم من نسلِ أكثرِ الفرسان شجاعةً، وإقدامًا، وأصفاهم نسبًا»، وقولُ الشّاعر:
ألستم خيرُ من ركبَ المطايا        وأندَى العالمينَ بطونَ راحِ
ومثاله في المبالغة ومعناها قول: «هو زجّال قوّال لا يضاهيه في البراعةِ أحد»، «هو أكولٌ لئيم»، «له وجهٌ ضحوكٌ وقلبٌ عبوسٌ»...
    أفعل التفضيل والمبالغة أسلوبان يلجأ إليهما المتكلّم لإظهار تمايزٍ في مشترك، ولإضافة منتهى المعنى لدلالة كلامه، وتبيانِ تقدُّمِ ما يتحدّث عنه وفرادَتِه في الموقع الذي يختصُّ به. وفي اللغة لا سيّما في الأدب الإنشائي حيثُ يتباهى الأدباء من شعراء وكُتّاب النثر الفنيّ بقدرتهم على الإحاطة بفنون اللغة، وتمكّنهم منها، وقدرتهم على أنْ يبدعوا بها كلّ جديد... يُعدُّ اللجوءُ إلى ما يخدمُ غايةَ الكاتبِ براعةً قَدْ لا تتوافرُ للكثيرين، لا سيّما إذا أُضيفت إلى قدرةِ الإبداعِ متانةُ السَّبكِ، ودقّةُ تخيِّر اللفظِ، وصحّةُ السياقِ وجودةِ الربطِ والعطفِ. لكنَّ مشكلة التفضيل والمبالغة تبدأ بانتقالهما من حيِّز الأدب إلى نطاق الحياةِ اليوميةِ، كعنوانِ رديفٍ ودائمٍ لكلّ ما يقوم بهِ فرْدٌ أو أفرادٌ، من فعلٍ، أو قولٍ، أو تأطيرٍ للذاتِ ولذواتِ الآخرين.
    تفسير هذه الظاهرة من تسرّب أفعل التفضيل وصيغ المبالغة من النحو والبلاغة إلى الخطاب العاديّ اليوميّ عسيرٌ، إذْ إنَّه وعلى وقع ما تعانيه اللغة العربية وآدابها كمادة تعليمية للطلاب من مشكلاتٍ واضطراباتٍ وهجرٍ ونسيانٍ، لا يمكنُ إرجاعُ هذا التسرُّبِ إلى وَلَع الطلابِ بالنحو والصرف وعلوم البلاغة... فَكَمْ يصل منهم إلى الصف الثاني عشر وهم في حيرة من أمرهم في الفرق بين «استفعل» و«انفعل»، وبين «أفعلَ» و«ما أفعل»، وبين الكناية والمجاز المرسل، والاستعارة والتشبيه البليغ... وعليه، على هذا التفسير أنْ يجنحَ لغيرِ هذا الاتجاه... لعلْمِ النفسِ ربّما مُدعّمًا بالتاريخ، إذْ لعلَّ وعسى بعطف هذين العِلمين كلٌّ منهما على الآخر، والقياس والمقارنة والإحصاء، يمكن الخلوصُ إلى ما يكون فيه جلو لأسباب هذا التسرّبُ ومرتكزاته.
    وبالاحتكام إلى علم النفس نجدُ أنّ مَنْ تعاظمَتْ لديه أهمية الأنا لربطِه إياها بأهمية ما أنجزه، وتوقَّف عنده الزمن، فلا قبل أو بعد بِالنِّسبه إليه - إذا سلّمنا جدلاً بأنّ التاريخ قدْ عَرَفَ له، على المستوى الشخصي أو الجَماعي إنجازات لا تضاهيها إنجازات- إنّما ينطبق عليه تشخيص الإصابة بـ«اضطرابات في الشخصية تنطبق على الشخصية النرجسية»، حيثُ التضخّم في شعور الشخص بأهميته والمبالغة فيه، وتدنِّي شعور التعاطف مع الآخرين وصولاً إلى العدوانية، والظلم، والاستبداد.
وبين علم النفس، والتدقيق بالتاريخ الذي تكثُر فيه الأشباهُ – فلا حاضر إلاّ وله شبيه في ما تقدّم، ولا حاضر إلاّ ويقابلُ ما يجاوزه مستقبلاً- مع احتفاظ بعض التفاصيل بفرديتها وتمايزها، و«الهوس» بِأفعل التفضيل وصيغ المبالغة يبقى مطلبُ تفسيرِ تسرّبهما مطروحًا! 
لعلَّ المشكلة في قواعد اللغة العربية ولعلّها كذلك فينا!
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في