: آخر تحديث

دفتر عتيق

58
56
58

ها هو الثلج قَد بدأ يرسمُ سبيله شعيراتٍ من الفضّة تقول بأنّ الزمن تغيّر... بأننا أنجزنا خطوات وأخفقنا في أخرى... بأننا حاولنا ولم نستسلم... بأننا كبرنا، نضجنا... لكنّ عبَق الطفولة لا يزال عالقًا فينا! أحلامُنا لا تزال دافعنا للتقدّم، لإكمال المسير، لتصويبه، لتعديله، لتجديده، حتى نقابل في المرآة كل يوم إنسانًا يبتسم للغدِ بحرارة كلِّ العشّاق، وللآن بزهو المنتصر، وللماضي بوفاءٍ وعرفان جميل... 
ماضينا يرسم معالمنا، ينشئ جوّانيتنا، وفي كل لحظة آنٍ نتذكّر لنتعلَّم، ونحفظ حتى نتفادى التكرار، ونقدّر الألم لأنه من يحقق البسمات، ونتتبَّعُ عبير الرياحين في دفتر، في كتاب، في رسم، في خيال نرويها بدمع الأمل والعمل لتزهر في الحياة...
ماضينا يردّنا إلى الـ«أنا» التي كنّا هي في لحظة معيّنة، إلى صوت أغنية تصدح عشقناها، إلى شقاوةٍ لم تتعب من تسلّق الأشجار والسعي خلف الزهور تصنع عقودًا منها وأساور، إلى زغاريد العصافير، إلى رغيف خبز ساخن على الصاج، إلى سنّارتين نُخيط بهما رجل ثلج وقدْ لفّ رقبته بشال أحمر، إلى حفيف الأشجار وقد داعبها النسيم، وإلى صراخها وقد ثكلت بعض أغصانها بفعل الريح، إلى رائحة الأرض في بداية الخريف... إلى دفتر عتيق خطَّ فيه القلمُ حنينًا وأملاً وتأملات وأساطير وأسئلة ترصد تلك النجوم خلف الغيوم...   
«غيوم السماء...
تتلبد السماء بالغيوم أحيانًا فيتساءل المرء إذا كانت لن تزول؛ ماذا إذا لم تُرد هي الزوال؟ ماذا إذا اختارت البقاء؟ ماذا إذا اختارت التناسل والتكاثر؟...
ألف ماذا وألف إذا، والجواب في كلّ الأحوال واحد لا تتغيّر، قد تزول نعم، ولكن وإذا أردنا...
ولكن...
ولكن ماذا إذا كانت هذه الغيوم بيضاء نقيّة؟ ماذا إذا كانت مكتنزة بين حبيباتها الدفء والمحبّة؟ ماذا إذا كانت حتى في رماديتها سرمديّة أزلية في اِحتضان صورة القلب الجريء والعقل القاطع؟
ألف ماذا وألف إذا، والجواب هو واحد في كلّ الأحوال، لا تنفع هذه الغيوم إلاّ في سياق الذكريات؛ الذكريات التي تتفوّق على الرقيب، لتطلّ بتحيّة مرّة بعد مرّة على حاضر قد لا يكون هو السعيد...
لا حياة لنا من دون هذه الغيوم، نلونها بألوان الطيف، ونُحيلها أمينة على مشاعرنا، وأحلامنا، وتمنياتنا، وذكرياتنا؛ نُسبغ عليها هيئة من نهوى، ونحييها بما عشقناه من طباعهم، وكأنّ في هذي الملهاة دواءً يشفينا، يبلسمنا، يطبطب على كتفينا، ينشر لنا عبق الأريج، والعطر والعبير، والأهم أنّ هذي الملهاة إحياء لنا في حياة لنا نتمنّى لو عشناها!...
كلّما نظرت إلى وجه السماء فوق الجبل الأخضر رأيت قطراتٍ تنهال ملتحمة متراصّة، أتُرى دموع المزن أم الوداع الاخير؟!
بيديك أنت أترك للإجابة مكان! بيديك أنت فحسب!...»


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي