: آخر تحديث

سنُّ اليأس...

42
42
45

يرتبط هذا العنوان عادة بانتهاء فترة الخصوبة عند المرأة، حيث تفقد ما يخوّلها الإنجاب بأبعادها المتضادة كلِّها، ذلك أنّ فترة الخصوبة متعلّقة بالعادة الشهرية التي تترافقُ بآلامٍ أقلُّها تقلُّصات الرَّحم وأشدّها الشقيقة التي تلامس الصرع...، وإذا غابت مؤقّتًا، تكون بُشرى تُنتظر بتوقٍ لمدّة تسعة أشهر لا تخلو من ضيق النفس، وآلام العظم، وعذاب الوحام، وارتفاع الضغط، والاكتئاب، والحرقة، وعدم القدرة على النوم براحة، والاحساس بالثقل، ورصدٍ لتحركات الجنين لحظة بلحظة، حتى إذا ما انخفض عددها، أو خفَّ  وطأها، ارتعبَتِ الأم الحامل، وذهبتْ صفراء الوجه إلى عيادة الطبيب تسأله حالَ جنينها، ولا تطمئنُ إلاّ بـ«إيكو- Echo»  يُريها فلذة كبدها على شاشة الكومبيوتر يسبَحُ مطمئنًا في رحاب أمنها وحنانها! وإذا غابتْ نهائيًا، تكون إيذانًا براحةٍ مأمولة من آلام الشقيقة، وبانخفاض كثافة العظم، والهبّات الساخنة، وتقلّبات المزاج...

    سنُّ اليأس عادةً ما يختصُّ بالنساء؛ هذا ما يؤكّده «غوغل» على أيّة حال، والمراجع الطبية، والذاكرة الجَماعية لأيِّ مجتمع كان أو سيكون، إلاّ أنّ الأمر ليس صحيحًا!!! نعم... نعم... سنُّ اليأسِ ليس حكرًا على النساء!!!...
النساءُ ييأسْنَ من دون بلوغ سنّ اليأس! فاليأس الذي أتحدث عنه من نوع مميّز فريد!

أجل... هو يأس مميّز!!! يأس يصيبُكَ إذا كُنتَ ممَّن ارتبطت ولادتهم بعد أن شاءت الصُدف ذلك بمساحة جغرافية خالها البعض صخرة عُلِّقت في السماء، وجنّة على الأرض، وأيقونة الشرق، وأسطورة الحضارة والديمقراطية، وعماد الإنجازات التي تنتظرُ أحدَهم ليرفعَ لواءها ويفضَّ بكارتها لأنَّ هذه المساحةَ ملعونةٌ، مسكونةٌ بالأشباح والعفاريت يتحكمون بالبشر ويعيثون في هذه الجغرافيا فسادًا!

بناءً على ما تقدّم تيأس النساء ولمّا يبلغنَ سنَّ اليأس بعد، وييأس معهنّ كلُّ من عَقلَ وتفكَّرَ من كلِّ عمرٍ وزمن...
ييأس من إضعاف التعليم الرسمي وضرب قطاع التربية لأنّه يبني الجهلَ في الناشئة، ويصنعُ أجيالاً مظلمةَ الفكر، سهلٌ زلَلُها وتطرُّفُها وتشكيلُها وقود نار! ييأسُ مِنْ اشتهاء لُقمةِ خبزٍ مخبوزة بضمير! من دواء يُشفي داءَه أو يتحكَّم فيه أو يمنعُه، لأنَّه دواءٌ مفقودٌ أو غير موجود عن سبق إصرارٍ وترصُّدٍ! مِنْ زيتٍ للطهو لا يجدُه إلاّ وَقَدْ نَفَذَ صبرُه وَخسرَ ربعَ راتبِه! مِنْ نُفاياتٍ منثورةٍ في الشوارع، تجودُ بالفيروسات، تلوّثُ الهواءَ وَالتربةَ وَتتفنَّنُ في اِستحداثِ أمراضِ السرطان وَالربو وغيرها! مِنْ ضياعِ الطفولةِ تحتَ عجلاتِ السياراتِ وَالاتجارِ بِالبشرِ وَالتسوّلِ وَالدعارةِ! مِنْ سرقَةِ البشرِ وَالحجرِ وَرمالِ البحرِ وَالغازِ وَالتراثِ وَالتاريخِ وَاليومِ وَالغدِ القريبِ وَالحُلمِ البعيدِ! مَنْ ضياعِ قيمةِ الإنسانِ الذي يُذلُّ ويُهانُ ويُقتلُ بِرصاصٍ طائشٍ، وتُزهَقُ روحُهُ تحتَ إهراءات القمحِ الذي عادةً ما يَحمِلُ قوتَ الحياة، وضلا عينَ تدمعُ، وَلا قلبَ يُشفقُ، وَلا ضميرَ يتحركُ، وَلا مُجرمَ يُسجنُ...

ييأسُ مِنَ الجشع الذي يمتصُّ دم الفقير! ييأسُ مِنَ التباهي مِنْ فراغ، مِنْ تصوير موائد الطعام الفاخرة وَمائدته تخلو إلاّ مِنْ كوب ماء! ييأس مِنَ البرد الذي يقطّع عظامه َوَيحرق لحمه وَيدمي قلبَه وَيحيله تمثالاً مِنْ حديد! ييأسُ مِنَ الكذبِ الذي يُعشعِشُ في النفوسِ، وَالخنوعِ الذي يُحللُ لها تخاذلها، وَغيابِ الضميرِ! ييأسُ مِنْ ألفةِ الخطأِ الذي أرسَى نفسَهُ شُرْعةً! مِنْ تحكُّم ِالباطلِ بِالحقِّ، مِنْ تَأليهِ المستبدِّ، مِنْ مُصادرةِ الكلمةِ حقِّ الاختيار! مِنَ الركضِ خلفَ شمسِ الغدِ التي تُخفَى خلفَ السرابِ!

هذا الذي يبحثُ عَنْ الحليبِ لطفلِهِ، وَيَستجدي لولدِهِ العييِ النجاةَ فإذا الاستشفاءُ داءٌ عيَاء؛ وهذا الذي يبحثُ عَنْ طفولتِه اللاهثَةِ فِي مستوعباتِ النُفايات، وَتلكَ التي تبحثُ عن طفولتها المُسجّاةِ في عقْدٍ مقابل مال؛ وهذا الذي أنهى دراستَه وَتلكَ التي أقبلتْ على الحياة تحقق أحلامَها بشهادتها الجامعية فإذا بِالعلمِ – لكليهما- محكومٌ بِالحبْسِ المؤبَّدِ مِنْ دونِ وَقْفِ التنفيذِ لِغيابِ «الواسطة» أو بِالتَّزلُّفِ أو بِالتَّهجيرِ؛ هذا الذي اختبرَ الحربَ الأهليةَ وَيتوقُ لِلسِّيادةِ فإذا بِالسيادةِ وَالحريةِ وَالاستقلالِ شعاراتٌ يُساءُ استغلالُهَا، كَالرِقِّ يُشترَى ويُباعُ! هذا الذي يتشوَّقُ لِلتَّقدُّمِ وَالثقوبُ السوداءُ تحاولُ اِبتلاعَهُ تشدُّه بِاتجاه مَا كانَ كانَ كانَ... 
هذا وهذه وذاك، لِكلٍ مِنهم اليأسُ الذي لا يريد، لأنَّ الجغرافيا صنعَتْ لكلِّ موجودٍ سنَّ اليأسِ الذي تُريد... 
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي