محمد ناصر العطوان
أهلاً بك عزيزي القارئ في قسم تحليل الاتجاهات الابتكارية... وسؤال اليوم هو لماذا أصبح الابتكار مجرد تطبيقات موبايل وتطبيقات ويب؟! «أما السؤال المرافق لنا اليوم فهو كيف تؤدي تحيزات تمويل الابتكار إلى قتل الاستدامة وتآكل تنوّع حلول المشاكل؟
لو سألت أي شاب عن الابتكار... فوراً سيفكر في«تطبيق» أو«موقع إلكتروني»!
تخيل معي في عام 2024، الابتكار في الخليج والعالم العربي تقلص ليكون فقط «برمجة وتصميم ورقمنة»! لكن الحقيقة تقول وتصرخ أن العالم الرقمي مجرد أداة من أدوات الابتكار وليس الابتكار نفسه!
عزيزي القارئ، اذا كنت تقرأ هذا المقال بدون مشروب حار أمامك، فتوقف هنا أرجوك واذهب لإعداد كوباً من القهوة أو الشاي... ثم عُد لنكمل كيف تمت هيمنة الرقمنة في عالم الابتكار؟
حسب دراسة للبنك الدولي في(2023) فإن 85 % من مشاريع الابتكار في الخليج تركز على القطاع الرقمي فقط، و70 % من التمويل الحكومي للابتكار يذهب للمشاريع الرقمية.
في الواقع إن هذه الموجة العالية ظهرت أيضاً في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي والذي أشار إلى أن الدول العربية تستثمر 6 أضعاف في الابتكار الرقمي مقارنة بالابتكار المادي و40 % فقط من الابتكارات العربية في القطاعات غير الرقمية.
ما الذي تعنيه هذه الإحصائيات ولماذا هذا يعتبر ناقوساً لخطر ما لا نعرف شكله؟ لكي تشعر عزيزي القارئ ما أشعر به، فيجب أن تتفق معي أن الابتكار الحقيقي أوسع من الشاشات!
إن إهمال القطاعات الحيوية مثل الزراعة والري والأسمدة دون استخدام الرقمنة، وكذلك الصناعة وابتكار المواد والماكينات، والطاقة وحلول تخزينها... كل ذلك أهم من منصات رقمية.
فمثلاً مشكلة مجاعة في أفريقيا سيكون حلَها الرقمي تطبيقٌ لترشيد الاستهلاك! أما حلها الحقيقي فهو ابتكارات في الزراعة وتحلية المياه.
إن ابتكار «نظام التنقيط» في الزراعة أنقذ دولاً، مقابل «تطبيق توصيل الطلبات» لا يضيف قيمة إنتاجية حقيقية.
لقد انتبهت منظمة اليونسكو لهذا وقالت إن 60 % من المشاكل المجتمعية لا يمكن حلها رقمياً فقط!
كذلك انتبه بيتر ثيل، صاحب كتاب «Zero to One» لكل هذا عندما قال والحسرة تأكل قلبه «أردنا سيارات طائرة، فحصلنا على 140 حرفاً في تويتر»!
لماذا إذاً يذهب التمويل والتسويق للتطبيقات؟ وما أسباب هيمنة الابتكار الرقمي؟ إنه وهم «السهولة» عزيزي القارئ، فالناس تعتقد أن الابتكار الرقمي «أسهل» من غيره، رغم أنه يحتاج مهارات متخصصة ليست أسهل من غيرها... كذلك تأثير «الواو» الذي يجعل المستثمرين يعشقون سماع كلمات مثل «ذكاء اصطناعي»!
المستثمرون يهربون من «الابتكار الصلب» كالزراعة والصناعة لأنه مكلف وطويل الأمد، ويهربون إلى التطبيقات لأنها «سريعة العائد».
فتكون النتيجة، تمويلاً متحيزاً للرقمي فقط... تحيز التمويل يقتل المستقبل.
ولك أن تتخيل أنه في مجال الإعلام والتسويق فإن 90 % من أخبار الابتكار عن التقنية الرقمية، و5 % فقط عن الابتكار في القطاعات الأخرى.
ولكي لا يُساء فهمي، ولا يغضب مني المبرمجون ومصممو التطبيقات، فأنا لا أسخّف أو أسطّح أهمية الابتكار في العالم الرقمي، ولكني أشير بكلتا يداي إلى كلفة التضييق الرقمي وما الذي نخسره عندما ننحاز بهذا الشكل؟ سنفقد التنوع الابتكاري، فالمجتمعات الأكثر تنوّعاً في الابتكار أكثر استدامة في المستقبل، كذلك سوف تتآكل المهارات الحرفية، حيث إننا مهددون بفقدان 40 % من المهارات اليدوية المبتكرة.
والأخطر من كل ذلك هو تهميش الابتكار المجتمعي وتسخيف المبادرات المجتمعية لأنها غير رقمية!
كل ما أحاول أن أقوله هو أهمية التوازن في سياسات دعم شاملة تشمل حاضنات أعمال للابتكار غير الرقمي وتمويل متوازن بين القطاعات.
وبدلاً من التهديد بالانقراض للحرف اليدوية، ندمج التقني مع الحرفي، ونشجع الابتكار في العلوم الأساسية.
ومن المهم لأسباب كثيرة لا يعلمها إلا الله والراسخون في التنمية والاستدامة أن يتم تغيير الخطاب الإعلامي تجاه الابتكار، وتسليط الضوء على الابتكارات غير الرقمية وتقديم نماذج نجاح متنوعة.
إن وضع مؤشرات قياس جديدة مثل مؤشر الابتكار الشامل والذي يشمل جميع القطاعات.
وتقييم الأثر الحقيقي ليس عدد التطبيقات... أصبح ضرورة اليوم من أجل ابتكار حقيقي يشبه الطبيعة التي تحتاج تنوّعاً لتبقى!
الابتكار الحقيقي ليس في كم التطبيقات... لكن في قدرته على حل مشاكل حقيقية!... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.

