تتميز الدبلوماسية السعودية بميزتين رئيسيتين: الميزة الأولى المصداقية، فالسعودية حينما توافق على اتفاقية معينة فإنها تنفذ كافة بنود الاتفاقية، وتنتظر من الطرف المقابل تنفيذ الاتفاقية وفق الموقَّع عليه، أو حتى وفق التفاهم الشفهي.
سيقول قائل: وهل هناك مَن يتفق ولا ينفذ الاتفاق؟ نعم، هناك من يتفق ولا ينفذ الاتفاق، وعلى رأس القائمة الرئيس المخلوع بشار الأسد، الذي كان يتفق مع الزعماء العرب حينما كانوا يحاولون إعادة سوريا إلى الحضن العربي، ولكنه لا ينفِّذ ما اتفق عليه، حتى ضاق الزعماء العرب ذرعاً بذلك. وحينما سُئل الرئيس المخلوع عن ذلك أجاب: «هم يأتون إلينا ونجاملهم، ولكننا نفعل ما نريد»! بمعنى أننا نتفق معهم ثم لا نلتزم بالاتفاق، أما السعودية فإنها إما ترفض وإما تلتزم بما تتفق عليه.
الميزة الثانية، هي الهدوء، فالسعودية لا تزايد على المواقف التي تتخذها في سبيل الأمة العربية؛ بل إن بعض المواقف تكون ضد مصالح السعودية الوطنية، ومع ذلك تفضل السعودية الوقوف بجانب قضايا الأمة، حتى وإن كانت هذه المواقف تضر بالمصالح الوطنية السعودية.
وحتى لا تستغرب أخي القارئ الكريم، يكفي موقف السعودية في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 ميلادية، وقطع البترول. هذا مَثَل من أمثلة عدة. ومع ذلك فإن السعودية لا تستعرض بمواقفها السياسية، ولا تزايد عليها، ولا تبحث عن مكافأة عن هذه المواقف.
استعرضت هذه المواقف حينما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب -في كلمته بالمنتدى السعودي الأميركي- أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان طلب منه أن يسعيا معاً لوقف النزاع في السودان. ومع ذلك لم تعلن السعودية هذا الموقف علناً، ولم تزايد عليه.
الموقف الآخر تجلى في أثناء زيارة ولي العهد السعودي للولايات المتحدة الأميركية، حينما أصرَّ على حلِّ الدولتين، وحفظ حقوق الفلسطينيين في غزة. الأمير محمد بن سلمان غلَّب مصلحة الأمة على المصالح الوطنية، ومع ذلك لم يزايد على هذه المواقف.
زيارة ولي العهد السعودي للولايات المتحدة كانت ناجحة بكل المقاييس، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، ولن أستعرض جميع النتائج؛ بل سأكتفي بواحدة تهمني، ذلك أن ولي العهد السعودي نجح في أن يبرم اتفاقاً مع الولايات المتحدة الأميركية لبناء مفاعلات نووية سلمية. وهذا بقدر ما هو مهم للسعودية فهو مهم للعالم. ستقولون: كيف؟ السعودية تستهلك نحو 35 في المائة من إنتاج النفط يومياً، أي نحو 3.5 مليون برميل يومياً داخل السعودية، معظمه يوجه لإنتاج الكهرباء داخلياً، وإذا استمر الوضع كما هو عليه دون البحث عن بدائل لإنتاج الكهرباء فقد نصل إلى استهلاك نحو 50 في المائة من الإنتاج اليومي للنفط داخل السعودية، ومع الازدياد السكاني وتوسع الصناعات، قد نصل إلى استهلاك أكثر من 50 في المائة من إنتاج النفط اليومي محلياً، ما يهدد بنقص إمدادات النفط عالمياً، لذلك فإن المفاعلات النووية مهمة للسعودية والعالم، والسعودية أوضحت في أكثر من موقف أنها ستجعل منشآتها تحت الرقابة الدولية، ما يضمن استخدامها للأغراض السلمية فقط. وقد أوضحت مصداقية الدبلوماسية السعودية في بداية المقال، ما يعني أن السعودية ستستخدم هذه المفاعلات للطاقة السلمية فقط.
ولن أتحدث عن بقية نتائج الزيارة، فقد سبقني بها عكاشة، فوسائل الإعلام لم تدع شاردة وواردة إلا ذكرتها. ودمتم.

