: آخر تحديث
ابنة الكيخيا تراه استعادة للوطن وذاكرته

«بابا والقذافي».. ليبيا الحقيقية

2
2
2

إيلاف من الدوحة: في اليوم الثاني من فعاليات مهرجان الدوحة السينمائي، الذي تنظمه مؤسسة الدوحة للأفلام، التقى الحضور بفريق الفيلم الوثائقي «بابا والقذافي» في جلسة بدت أقرب إلى محاولة لإحياء ذاكرة شخصية وسياسية مثقلة بالفقد والأسئلة المؤجلة. جلست المخرجة جيهان الكيخيا أمام الصحافيين لتتحدث عن اختفاء والدها، الدبلوماسي والمعارض الليبي منصور رشيد الكيخيا، في القاهرة عام 1993؛ مستعيدة الرحلة الطويلة التي خاضتها مع والدتها، الفنانة السورية الأمريكية بَها العمري، بحثًا عن الحقيقة والعدالة.

وفي الفيلم الذي بدأ رحلته العالمية من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي قبل أن يصل إلى جمهوره العربي في الدوحة هذا الأسبوع، تعيد جيهان تركيب ملامح الأب الذي لم تعرفه إلا من الصور والمشاهد الأرشيفية. وفي حديثها، بدت الرحلة كلها أشبه بخريطة تتقاطع فيها السياسة بالعائلة، والبحث بالتوثيق، والذاكرة بالوطن.

الاختفاء.. قد يحدث مرتين
خلال الجلسة بدأت جيهان في تذكر اللحظة التي انطلقت منها فكرة الفيلم قائلة: «بعد العثور على جثمان والدي ودفنه، كانت ليبيا على وشك الانهيار. مرّت شهور ثم سنوات، وفجأة أدركت خطرًا أكبر: لم أكن أريد لوالدي أن يختفي مرتين.» كاشفة عن أن الاختفاء الأول له حين كانت في السادسة من عمرها، وقت لم يكن لها أي دور في رحلة البحث عنه، وتقصي أثره.

أما الاختفاء الثاني، فكان وقت معرفتهم بوفاته، وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، المرحلة التي وصفتها قائلة: «أصبحت الآن أملك الوعي والسياق والمسؤولية.» مضيفة: "«شعرت أن عليّ أن أفعل شيئًا. أن أكرّم والدي وعائلتي، وأن أعيد بناء عالمي الداخلي.»، لافتة إلى أن الفكرة راودتها في ذلك الوقت، واصفة تجربتها الوثائقية بأنها «ليست فقط سرد قصة، بل استعادة وطن وذاكرة».

إحياء الذاكرة من خلال عدسة الكاميرا
في الجلسة شارك أفراد من أسرة المخرجة جيهان، ومنهم شقيقتها، التي استقبلت سؤالًا «عمّا يعنيه لها أن تُعيد إحياء والدها عبر عدسة أختها جيهان؟»، لتجيب قائلة: «كان الأمر عاطفيًا ومحرّرًا في الوقت نفسه. لم أكن لأستطيع صنع هذا الفيلم وحدي. أختي جيهان هي صديقتي، وهي كل شيء. أنا دعمتها بأقصى ما أستطيع… فقط لأنها جيهان.»

أضافت الأخت الكبرى: «الفيلم هنا ليس فقط مشروعَا فنّيًا… بل هو فعل عائلي، علاقة أختين، محاولة مشتركة لفهم الماضي وترميم الحاضر.»

إعادة بناء الذاكرتين الشخصية والسياسية
وبالحديث عن أكبر تحدٍّ واجه المخرجة في صناعة الفيلم، كشفت شقيقتها أنه لم يكن تقنيًا، بل كان وجوديًا، موضحة: «جيهان عاشت فقدين كبيرين: فقد والدها ثم فقد ابنتها. وكان عليها أن تعيد بناء ذاكرتها الشخصية عن رجل لم تعرفه جيدًا، وأن تعيد أيضًا بناء ذاكرة سياسية لحقبة لم تعشها.»، وتابعت: «كان هذا تحديًا صعبًا، لأن الفيلم ليس مجرد تحقيق جنائي أو قضية باردة، بل هو قضية حيّة، ومؤلمة، لن تُغلق أبدًا.»

جيل كامل على وشك الرحيل
وبالعودة للمخرجة، قالت إن مرحلة البحث كانت أطول مراحل الفيلم وأكثرها تحديًا بالنسبة لها، وعن سبب ذلك أوضحت: «أجريت أكثر من 60 مقابلة. بعضهم جلست معه ساعات طويلة، وتحوّلت اللقاءات إلى علاقات إنسانية.

دخلتُ الفيلم بيقين أنني لا أملك ما أقدمه، كنتُ صغيرة جدًا، فاخترت أن أكون مستمعة فقط. لكن اكتشفت لاحقًا أنني كنت أيضًا أقدّم شيئًا لهم.»

وتضيف: «كثيرٌ ممن التقيتهم كانوا في التسعينات من أعمارهم. كانوا يرون فيّ ابنة أو حفيدة. كان منحهم مساحة للحديث فعلًا سياسيًا؛ كأنني أقول لهم: حياتكم قبل القذافي مهمة، ولن نسمح أن تُبتلع الذاكرة كلها داخل النظام.»

وعن أبرز المواقف التي تتذكرها أثناء رحلة البحث تلك، كان مع أحد أقاربها، حيث قالت: كان صريحًا وقاسيًا معي، وهذا ما احترمته فيه. لكنه لحظةً ما، أغلق الباب في وجهي وقال: ما الفائدة؟… وأنا أؤمن أن هناك فائدة كبيرة. لنا جميعًا. وإلا فنحن نفرّط في تاريخ كامل.»

تضيف المخرجة أن حياتها وهويتها كلها تشكّلت بفعل السياسة: «حتى المكان الذي ولدت فيه، هو نتيجة لقرار والدي أن يواصل نضاله السياسي. لذلك كان تداخل الشخصي مع السياسي طبيعيًا جدًا بالنسبة لي. لكنه احتاج إلى خبراء وإلى فريق كامل لموازنة هذا التوتر.»

الموسيقى كوسيلة إنقاذ
جانب آخر تطرقت له جيهان في حديثها عن ذكرياتها وأسرتها، حيث كشفت أثر الموسيقى والفن عليهم، وسبب إصرارها على توثيق الأرشيف الموسيقي لتلك الفترة في فيلمها، قائلة: «الموسيقى أنقذت حياتنا. عائلتي عائلة مرِحة وموسيقية، وهذا ما حملنا خلال الفقد.والدتي رسّامة، والفن كان خيطًا علاجيًا مستمرًا. لذلك رفضت أن أتنازل عن الموسيقى أو الأرشيف رغم تكلفته الكبيرة.»

وليست الموسيقى وحدها ما أصرت المخرجة على تضمينه في العمل، بل أصرت على استخدام الأرشيف الليبي القديم أيضًا، وعن سبب ذلك أوضحت: أنه «لا يوجد الكثير ممن يستطيعون تخيّل ليبيا قبل 100 عام. فعلت ذلك لنفسي، وفعلته كخدمة للآخرين، كي يروا ليبيا بدقة وبجمالها الحقيقي.»

رحلة فردية!
«كنت أعلم أنها رحلة فردية»، هكذا اختتمت جيهان حديثها عن «بابا والقذافي»، حيث قالت: «كنت أعرف أن الجزء الأخير من الطريق سأمشيه وحدي، أحمل هذا الحمل على كتفي. لكن كل شخص قابلته في الطريق كان أساسيًا في الوصول.»، واختتمت حديثها: «بعض العلاقات كانت سهلة، وبعضها درسًا قاسيًا، وبعضها نعمة خالصة.»


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ترفيه